إن الحرص على سلامة الأجيال الناشئة لا يجب أن يكون مبرراً لعدم الإيمان بالتغيير الاجتماعي. إن المحافظة عليها لا تتم بالتنكر للواقع ولا محاولة الرجوع التعسفي للتاريخ، فهذه رؤية منافية للدين ومقاصده السامية ما هو التغيير؟ وما الذي يعنيه التغيير الاجتماعي؟ وما علاقته بالعرف؟ التغيير لغة يعني التحوّل من حال إلى أخرى. ويقال تغيّر الشيء أي تحوّل. كما يشير التغيير _ وفق بعض التعريفات _ إلى استحداث وضع لم يكن قائماً من قبل. والتغيير، كمفهوم، ارتبط كثيراً بالدراسات الإنسانية، وجرت مقاربته، على وجه خاص، في سياق نظريات التطوّر، واعتنى به علم الاجتماع الحديث، وأصبحت له نظرياته ومناهجه وأدوات تحليله. وقد أضحى التغيير، كمفهوم، جزءاً من الدراسات الإدارية ودراسات التنمية، بموازاة التصاقه التقليدي بالعلوم التطبيقية، حيث ولد من رحم الكيمياء و/أو الفيزياء.. وهناك جملة مصطلحات بدت وكأنها ملازمة لمصطلح التغيير أو مرادفة له، ومنها تعبيرات الإصلاح والتطوير والتحديث. وعلى الرغم من ذلك، فهذه المصطلحات لا يُمكن النظر إليها كمفهوم رديف للتغيير، بالمدلول النظامي. يختلف التغيير عن "الإصلاح" لناحية دلالته على مضامين أكثر جذرية وأوسع نطاقاً. ويختلف عن "التطوير" لأنه لا يرتكز على الأسس القائمة بالفعل ولا يأخذ سياقاً تراكمياً. ويختلف عن "التحديث" لكون هذا الأخير يشير بالضرورة إلى فلسفة تاريخية، ويحمل في الغالب بُعداً أيديولوجياً وقيمياً، وربما معيارياً. ويُمكن النظر، على نحو تقريبي رؤيوي، إلى الاختلاف بين التغيير والمصطلحات الثلاثة، سابقة الذكر، على أنه نظير التمايز بين الظاهرتين الكيميائية والفيزيائية. وماذا عن التغيير الاجتماعي؟ إننا هنا بصدد مصطلح حديث نسبياً، دخل علم الاجتماع الحديث في العام 1922 مع صدور كتاب "التغيير الاجتماعي" لعالم الاجتماع الأميركي وليام أوجبرن. وعلى الرغم من ذلك، فإن فكرة التغيير الاجتماعي وفلسفته كانتا حاضرتين لدى غالبية فلاسفة عصر النهضة في أوروبا، وقد اعتنوا بها على نحو كبير، كما تشير كتاباتهم. كذلك، فإن النظرية السياسية الحديثة قد وجدت أهم جذورها في فلسفة التغيير الاجتماعي ذاتها. قبل ذلك، كان الإسلام الحنيف قد بحث مسألة التغيير الاجتماعي، جذوراً وحراكاً ومآلاً، في نصوص عدة وردت في القرآن الكريم. والفكر الاجتماعي الحديث لم يبتعد في جوهره عن هذه الآيات.. قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه المجيد: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد -11). وقد جاء في تفسير القرطبي أنه "لَا يُغَيِّر مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يَقَع مِنْهُمْ تَغْيِير، إِمَّا مِنْهُمْ أَوْ مِنْ النَّاظِر لَهُمْ، أَوْ مِمَّنْ هُوَ مِنْهُمْ بِسَبَبٍ؛ كَمَا غَيَّرَ اللَّه بِالْمُنْهَزِمِينَ يَوْم أُحُد بِسَبَبِ تَغْيِير الرُّمَاة بِأَنْفُسِهِمْ". في المقاربات الراهنة، برزت تعريفات عديدة للتغيير الاجتماعي. والتعريف المجمل هو: مجموعة التحوّلات البنيوية على مستوى العادات والثقافة والمفاهيم الكبرى. ويُمكن تعريف التغيير الاجتماعي أيضاً بالقول إنه التحوّل الكيفي والكمي في المجتمع. كما يُمكن تعريفه بأنه إجمالي الظواهر الاجتماعية، المتصفة بالديمومة، في إطار زمني معين، أو مرحلة زمنية محددة. وفي الكتب الكلاسيكية، التي يدرسها الطلاب، جرت العادة على تقسيم عوامل التغيير الاجتماعي إلى محلية وخارجية، حيث ثبتت نظريات علم الاجتماع الحديث على هذا القول، الذي لا يختلف في شيء عما جاء في تفسير القرطبي. وهل العوامل المحلية هي الأكثر حسماً في هذا الإطار، أم تلك المتصلة بالفضاء الخارجي؟ بالطبع، هذه مسألة ليس من السهل حسمها. بيد أن الفكر الإسلامي يعطي البعد المحلي دوراً مركزياً، ويحيله للإنسان على مستوى الفرد والمجتمع على حد سواء. وهناك نصوص كثيرة أشارت، على نحو لا يقبل التأويل، إلى مسؤولية الأفراد والأمم عما يحدث لهم من تطوّر أو انحطاط. وقد أشار القرآن الكريم إلى الفلسفة السببية لعملية التغيير الاجتماعي، كما الازدهار البشري بصورة عامة.. ومن ذلك قوله تعالى في سورة الكهف: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً(83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا(84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا). وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكم) (الأنفال -24). وقوله: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجن -16).. وقوله عز وجل: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك -15)، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ) (الانشقاق -6). ونجد هذه الفلسفة كذلك في تأكيد الإسلام على مسؤولية الفرد والمجتمع عن وصول الأمة إلى غاياتها الكبرى، والتي تؤكد مبدأ ورؤية الإصلاح والتغيير الاجتماعي. كما في قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران -104). وعلى الرغم من تأكيده على مركزية العوامل المحلية (مسؤولية الفرد والمجتمع)، لم يتجاهل الإسلام أهمية العوامل الخارجية ودورها في النهضة الاجتماعية، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات -13). وقوله: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة -251). وأكد الإسلام على أهمية الانفتاح على الآخر بقوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزمر -18). وأمر الإسلام بالتدبر في الشعوب السالفة، وأخذ العبر من ماضيها، والتفكر في أسباب نهوضها أو انحطاطها. كما في قوله تعالى في سورة الفجر: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ(7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ(8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ(9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ). هذه بعض مضامين الرؤية الإسلامية للتغيير الاجتماعي، التي ثبت للبشرية صحتها وقوة بيانها. وهي رؤية أخذ بمضمونها علماء عصر النهضة وفلاسفتها، ومن بعدهم الفكر الاجتماعي الحديث. بعد ذلك، هناك سؤال مركزي فرض نفسه على مقاربات علم الاجتماع، هو: هل العرف قوة مانعة أو حاجبة للتغيير الاجتماعي؟ هذا يتوقف على رؤية المجتمع للعرف ذاته. في الأصل، فإن العرف ليس حاجباً للتطوّر بل سبب موجب له. هذه هي سنة التاريخ، وهذه هي تجربة شعوب الأرض، شمالاً وجنوباً. العرف يصبح حاجباً للتغيير الاجتماعي متى جرى التمسك به تمسكاً جامداً بعيداً عن العقل. وثمة معضلة أكثر إشكالية تتمثل في عدم التمييز بين العرف والدين. الدين قوة دافعة للتطوّر على نحو مطلق، أما العرف فمحكوم بالزمان والمكان، ولا يجوز توسيع نطاقه على نحو عشوائي. الأعراف يجب احترامها لكونها تمثل امتداداً للجذور، وتعبر عن الارتباط بالأصول، وتؤكد التميّز والأصالة. والمجتمع الذي لا أعراف له لا ذاكرة له. ليس ثمة تناقض بين العرف والتغيير الاجتماعي كفلسفة ومفهوم. وثنائية الأصالة – المعاصرة هي ثنائية زائفة، فالأصالة ليست نقيضاً للمعاصرة بل منطلق لها. ليس المطلوب استبدال العرف بما هو جديد، بل المطلوب التفاعل بينهما، ليلدا عنصراً ثالثاً، هو التطوّر في إطار الخصوصية الاجتماعية. هذه هي الفلسفة الصحيحة للتغيير. اليوم، هناك فضاء ثقافي -قيمي عالمي شديد التأثير على عادات وأعراف الشعوب المختلفة. وليس المطلوب الاصطدام بهذا الفضاء أو التنكر لوجوده، بل المطلوب الاعتراف به اعترافاً خلاقاً، أي الإفادة من معطياته والسعي قدر المستطاع لتجنب إفرازاته العرضية الضارة. وهذه مهمة العلماء والمفكرين، وفي طليعتهم المصلحون الاجتماعيون. علينا أن نؤمن بداية بأن التغيير الاجتماعي سنة من سنن التاريخ، وعلينا بعد ذلك أن نسعى لمقاربة هذا التغيير في إطار خصوصياتنا الثقافية، وأن نسعى لجعله محركاً من محركات النهوض الحضاري. إن الحرص على سلامة الأجيال الناشئة لا يجب أن يكون مبرراً لعدم الإيمان بالتغيير الاجتماعي. إن المحافظة عليها لا تتم بالتنكر للواقع ولا محاولة الرجوع التعسفي للتاريخ، فهذه رؤية منافية للدين ومقاصده السامية. إن حماية الأجيال الناشئة تكون عبر توجيهها إلى سبل الرشاد، ليكون العصر سبيلاً لتقوية إيمانها بالدين الحق، وإبعادها عن دروب الهوى، وتيارات الضلال التي شوهت سمعة الدين الحنيف ومقاصده النبيلة الغراء. علينا أن نعزز الرؤية النورانية ونجعل من التغيير الاجتماعي سبيلاً لبناء جيل واع منفتح، متسامح مع ذاته وعالمه الأوسع نطاقاً. إن نشر رؤية التغيير الاجتماعي الصحيح يُعد تعميماً للهدى، وتأسيساً لمجتمع الفتية، الذين قال عنهم الله عز وجل: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف -13). وهذه هي فلسفة التغيير الاجتماعي وهذه هي طرقه الحقة. [email protected]