تحدثت في آخر مقال عن ضرورة الابتكار (والتفكير بطرق غير تقليدية) لقياس أداء المسؤولين والعاملين في القطاعات الحكومية.. قدمت نماذج لقياس أداء الوزارات والمؤسسات والدوائر العامة بل وحتى الأطباء والقضاة وأساتذة الجامعات.. قلت إن ما نعجز عن قياسه نعجز عن محاسبته، وما نعجز عن محاسبته سيجنح بطبيعته إلى الثبات والتخلف وهي ظاهرة عانينا منها لفترة طويلة... على أي حال؛ كان ذلك عن قياس أداء الحكومة (بعد) تعيين المسؤولين والعاملين فيها.. أما في مقال اليوم فسنركز على قياس أداء العاملين والمسؤولين (قبل) تعيينهم أصلاً فهذا في نظري أهم وأولى.. فقبل أن نشغل أنفسنا بقياس أداء العاملين في الحكومة يفترض (منذ البداية) أن لا يتم تعيينهم إلا من خلال معايير صارمة ومقاييس مجردة.. يفترض (قبل أن نسأل عن سبب انحدار مستوى قطاعاتنا الحكومية) أن يتم اختيار المسؤولين فيها بحسب كفاءاتهم وتفانيهم ومواءمتهم للمهمة.. لا يفترض مثلا أن نُعين (منذ البداية) سفراء أو موظفي سفارات لا يجيدون التحدث بلغة البلد ناهيك عن اللغة الإنجليزية.. لا يفترض أن نعين مسؤولا في منصب حساس مهما بلغت ثقتنا فيه طالما اختلفت مؤهلاته وخبراته عن طبيعة مهامه ومسؤولياته.. لا يجب أن تتحول المناصب والوظائف الحكومية إلى حقل تجارب يُفصل بعدها المسؤول (ولكن، بعد وقوع الفأس بالرأس).. .. حتى في القطاعات الفرعية الصغيرة لا يجوز (منذ البداية) تعيين رؤساء الأقسام والإدارات على أساس الأقدمية أو السن فقط.. تعيين الرؤساء يجب أن يعتمد (قبل كل شيء) على معايير الكفاءة والخبرة والمهارة بصرف النظر عن السن والأقدمية والميول الشخصية.. التعيينات التي تعتمد على الواسطة والميول الشخصية تنحدر بأداء المؤسسات مع كل تعيين جديد.. أنا أول من يعترف بأن احترام كبار السن من الخصائص الإيجابية لمجتمعنا السعودي؛ ولكن حين يتم التعيين مثلاً على أساس (السن) يتسبب ذلك ليس فقط في إحباط الشباب بل وحرمان أنفسنا من أفكار جديدة وأساليب معاصرة يتقنها الشباب أكثر من غيرهم... والحقيقية هي أننا نعاني من هذه المشاكل مجتمعة.. نعاني من المجاملات والوساطات وحجز الوظائف واحتكار المناصب.. وهذه التجاوزات تمر غالبا دون محاسبة وتنتهي بطرد الكفاءات وتخلف الإدارات ورفع مستوى البطالة المقنعة.. عدم فتح الترشيحات لعموم الناس، وعدم بحثنا عن المواهب الإدارية (في قاعدة الهرم) تعني عدم نظرنا لأبعد من محيطنا الخاص وتضييق خياراتنا أحد ثلاثة.. إما شخص نعرفه، أو نرتاح إليه، أو زاملناه في الحي والمدرسة... إذاً؛ قبل التفكير بقياس أداء الحكومة يجب أولاً أن نلتزم بمبدأين أساسيين لاختيار المسؤولين فيها: المبدأ الأول: عدم التعيين اعتمادا على أعرافنا الاجتماعية أو معاييرنا الشخصية.. فنحن مثلا غالبا ما نختار الأكثر قربا والأكبر سنا (خصوصا حين تتساوى الكفاءات).. يمكنك أنت اعتماد هذه المعايير حين يكون الأمر متعلقا بك وحدك، ولكنها تتحول لكارثة حين يتعلق الأمر بمنصب عام يهم جميع الناس.. أما المبدأ الثاني (بعد التخلص من المجاملات والأعراف الاجتماعية) فهو الاحتكام إلى معايير مهنية مجردة، ومقاييس رسمية واضحة، ونتائج علنية يرتضيها الجميع.. معايير (صارمة ونزيهة) تعتمد على الكفاءة والموائمة والقدرة على التجديد والابتكار.. قد نفاجأ بأن الأفضلية أصبحت من نصيب شاب صغير أو موظف مغمور أو سيدة تعمل في القطاع الخاص.. لا يهم.. المهم أن ننتهي لاختيار الأفضل، والأكفأ، والأكثر استحقاقاً.. .. يجب أن نفعل ذلك مهما بدت المهمة صعبة لأن (مالا يمكن قياسه) نعجز عن محاسبته، وما نعجز عن محاسبته يجنح للثبات والركود، وما يجنح للثبات والركود ينتهي بالتعفن وانكشاف الرائحة.