يوم وعيه أمسك مقود سيارته وطارت به سريعاً قافزاً من أعلى الجسر وقبل أن يصل للأرض غاب في درك "الكوما".. لُجة الغيبوبة من قاع إلى درك ولُجج تتوالى على عقله، تنفسه يتهادى منتظماً ويتسارع مقبلاً على فقدانه وفي باطن العقل المسجى "راحة منكم" قالها بخشوع وهو في إحدى قيعان غيبوبته. هو السابح دائماً في الوسط، وسط في اختياره وعيشه، وفي ظنه أن الوسط وطوال سنوات يتعاظم ويمتد ويكبر به ومعه في دعة وأمان، تلك أحلام خلت فقد كان في انتظار ما لا سيأتي وملاذه حقيقة يسحق ولا يستطيع إنقاذه هو في قاع لم يكُ اختياره.. أحب غيابه العقلي الذي لا يفسده شيء، من يستطيع أن يكون معه الآن؟ لا أحد يختار هذه الرقدة لا أحد يرغب أن يتداعى ويتحول إلى جسد وروح تلهث في الفراغ. لكن مكانه في قاع غيبوبته أجمل كما حدثه عقله، وماذا جنى من الوسط سوى تحوله لشيء يعول عليه كل من عرفه، تذكر أنه قيل له فيما مضى: الوسط صمام الأمان، وأي أمان في هذا العالم الذي ينمو ويكبر ويزداد توحشاً، فمن قاتل لا يرحم إلى قاتل أقل رحمة وأكثر إيلاماً لضحاياه، من طائرات بلا طيار تجوب السماء وتقتل بالشك، إلى ساحات حرب مفتوحة بلا نية انتهاء. كيف يحب من في الوسط وهم يسعون بلا كلل لإرضاء الكبار في أبراجهم، والصغار في صفائحهم، وكيف يختارون أحباءهم من وسطهم الآمن أم من القاع الهش أو من الأعلى الوالغ في القبح، وهل سيصمد هذا الوسط ومن فيه طويلاً أمام هذا التعالي المنجرف نحو مزيد سحقٍ لمن تحته بكل ما أوتي من وسيلة بالقتل وخنق سبل العيش؟ أسئلة بلا إجابات، ومقته يزداد للواقع الذي تركه للصحو الفاقد للانسجام وفي ضحى أحد الأيام أفاق طافياً من قاعه على وجوه حاول تذكرها، وكعادة من ينتظر السابح في الغيبوبة.. بكى من حوله مكبرين الله مهللين لعودته احتضنه الحاضرون، وتناقلوا صوره مع الغائبين عن معجزة إفاقته عن المشهد الذين دعوا الله طوال أربعة أشهر في انتظاره، كل تلك الدموع لم تنجح في إطالة مدة إفاقته أكثر من ربع الساعة، وعاد بفرح إلى القاع حيث المستقر الذي لا يحتاج لسحق، حيث المسحوقين الناقمين على الحياة، المنتظرين الموت بلا تكلفة!