قبل أربع سنوات، زرت القصيم ضمن "قافلة الإعلام السياحي"، وهو برنامج رائع وذكي تنظمه الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني للتعريف بمناطق المملكة العربية السعودية التي تزخر بالكثير من الآثار والكنوز السياحية والثقافية والاجتماعية، وقد كانت المرة الأولى التي أصافح فيها هذه المنطقة الملهمة من بلادي. ها أنا أعود للقصيم مرة أخرى، محملاً بكل تلك الذكريات والحكايات والصور الجميلة التي سكنت قلبي وعقلي، لأن القصيم ليست من المدن التي تسكنها، بل هي التي تسكنك. "القصيم.. دهشة المكان وروعة الإنسان"، كان هذا هو عنوان المقال الذي كتبته عن زيارتي الأولى للقصيم، والذي ختمته بهذا الدرس الرائع الذي تعلمته من تلك الزيارة التي لا تنسى وهو "أن الوطنية الحقيقية ليست مجرد شعار رنان أو عنوان مؤثر، ولكنها حالة متفردة من العطاء والبذل والسخاء للأرض التي تنتمي لها"، وهذا الدرس الجميل نشاهده بكل وضوح في كل تفاصيل هذه المنطقة السعودية الملهمة. الكتابة عن القصيم، هذه الأرض الخلاقة والمدهشة، تحتاج إلى الكثير من المقالات والدراسات والتقارير، فسر "النجاح القصيمي" على أكثر من صعيد ومستوى مازال عصياً على الفهم والتقليد والاستنساخ. سأحاول أن أركز فيما تبقى من هذا المقال للكتابة عن "مهرجان بريدة للتمور" الذي يعد أكبر سوق للتمور في العالم، حيث يشكل تظاهرة اقتصادية فريدة من نوعها. فعلى مدى 35 يوماً، يشهد هذا السوق الشهير تسجيلاً للكثير من الأرقام القياسية والفلكية التي ترافق بيع وشراء مختلف الأصناف من أجود أنواع التمور التي تشتهر بها منطقة القصيم، والتي أصبحت "علامة بارزة" في صناعة التمور على مستوى العالم. الأرقام والإحصائيات كبيرة ومذهلة، ولكنها مازالت تتحطم مع بزوغ كل فجر جديد خلال هذا المهرجان الاقتصادي الضخم، إذ تبدأ فعاليات المزادات الكثيرة والكبيرة بصيحات الدلالين بلهجتهم القصيمية الجميلة بعد صلاة الفجر مباشرة وسط حشود من المزارعين والتجار والمتسوقين من كل مناطق الوطن. وتحتل القصيم المرتبة الثانية من حيث عدد أشجار النخيل بعد منطقة الرياض بأكثر من 7 ملايين نخلة من إجمالي عدد أشجار النخيل في المملكة والتي تصل إلى 30 مليون نخلة. وخلال الساعات الأولى من كل يوم من أيام المهرجان يتم تداول أكثر من عشرين مليون ريال قيمة لصفقات البيع والشراء المحمومة في هذا السوق الكبير، وقد يصل المبلغ الإجمالي بعد نهاية المهرجان إلى مايزيد عن 700 مليون ريال، وهذا الرقم الضخم يسهم وبشكل كبير جداً في إنعاش حركة الاقتصاد في منطقة القصيم، بل وفي كل الوطن. مهرجان بريدة للتمور، ليس مجرد بازار كبير لبيع وتسويق وصناعة التمور، ولكنه تحول خلال عقد من الزمن إلى "كرنفال" وطني شهير متنوع التفاصيل ومتعدد المجالات، وأصبح تطبيقاً حقيقياً للاستراتيجية الوطنية المعنية بتنوع وتعدد مصادر الدخل والتي تمثل الركيزة الأساسية للرؤية السعودية الطموحة 2030، إذ يُعتبر التمر في القصيم هو "الذهب الأصفر" الذي يشع لمعاناً وبريقاً وسحراً، ولكنه قبل كل ذلك يُمثل ثروة وطنية كبرى آن لها أن تُحاكى في كل مناطق ومدن الوطن التي تشتهر بمنتجاتها الشهيرة، إضافة إلى مساهمته الفاعلة في خلق الوظائف الثابتة والموسمية للمئات من الشباب والأسر المنتجة. مهرجان بريدة للتمور، صورة ملهمة ومشرقة تستحق الإعجاب والفخر، لأنها تعكس ملامح الإبداع والإنجاز التي يتمتع بها الإنسان في القصيم، بل وفي كل الوطن. [email protected]