مسفر الغامدي أنْ تكتب عن ذكريات تناءت بعد عقود من عمرك، أنْ تستعيدها وتقولبها في لحظة شعرية، فهذا يتطلبُ شعرية فذّة، وقصيدة نافذة إلى لُب القارئ مباشرة؛ لتنقله من حدث، عاشهُ صغيراً. أنْ تصف له قرية نائية شكّلت ذهنيتك الأولى واستقيت منها قصيدتك الابتدائية؛ أن تفعل ذاك باقتدار، فإنك تُشير إلى شجرة يسقيها الشاي، للشاعر مسفر الغامدي. جاءت قصائد المجموعة منسابة، متسلسلة، كجدول رقراق رآه الشاعر يسقي (ركيبا) في قريته النائمة بين جبال السراة. كان يلتقط المشاهد، لقطة، لقطة، وكأنه حريص كل الحرص، على ألا يفته شيءٌ منها، وألا تتقافز الذكريات من مخيلته دون أن تنال حظها في قصيدة قصيرة، يستخرج منها اللحظة الشعرية التي تكررت كثيرا وكثيرا، بين ثنايا المجموعة الشعرية. لكنْ: ما الذي جعل مسفر يقرر في هذا الزمن بالذات أن يأتي بها، أن يقبض عليها، قبل أن تتفلت؟ أهو خوف الشاعر من ضياعها من مخيلته، أم خوفه من عامل الزمن الذي قد يفوّت عليه فرصة اقتناصها، كما فعل باقتدار!، وهذا الجيل الذي نشأ في القرية حديثاً لم يعد يهتم لتلك (الأسماء) التي لا يعيها، بعد أن استورد وألف الأسماء المعلبة الجاهزة. فالشاعر لا ينظر إلى المسألة هنا بقصد، التسجيل، والحفظ من الضياع؛ فهذه ليست مهمته؛ إنما مهمته قطف اللحظة الشعرية، والاتيان بالمفارق، والجديد والمبتكر. وقد نجح في تتبع آثار ذكرياتٍ عبرتْ، لكنها لم تزل حية ويقظة في ذهنيته، ولهذا استوقفها شعراً، ووقف على الأطلال والديار، ولكن بقصيدة نثر عابرة، تكتنز المعنى، وتصف اللحظة، وتستوعب المفارقات، وتجد فيها العابر والجميل، والمضحك، والمبكي أيضاً. بدأ الشاعر واصفاً، للذات الشاعرة، لاحتفائهم به وقد ولد باحتمالية تتناقص في أنْ يبقى، لكنها المشيئة الإلهية في نهاية الأمر: ولدتُ برأس كبير وجسد ضامر لم تضيع أمي وقتها في النظر إليَّ ولم يسجل جدي تأريخ مولدي في دفتره العتيق. لأنه كان واثقا من أنني لا أصلح للحياة بضعة أيام أو أشهر. لا تحتاج إلى مساحة ولو صغيرة في دفتر العائلة.. عشتُ... ليس لأنني أستحق الحياة بل لأن الله لم يأخذ (وداعته). وهكذا كان الأمر، أبقى لنا الله شاعراً، لم يلتفت أحد إلى القرية بتفاصيلها كما فعل. فهو لم يجمّل المواقف ولا المشاهد، ولم يتصنع موقفاً أبداً؛ بل كانت القرية بالنسبة له كائناً مقدّساً، حرص الشاعر كل الحرص على عدم المساس بقدسيته، فهو لم يشوّهها، ولم يقل رأيه صراحة فيها من حيث مدى صلاحيتها للحياة والناس أم لا. فهذا ليس شأن الشاعر على أية حال، إنّ الشاعر الحق يجب أن يبقى صادقاً، وحقيقياً، ومنصفاً مع الكون كله، فعليه أن يقبله كما هو ويتصالح معه. الجبال التي تُشكل خارطة القرى، وتُغلّف ليلها، وتصنع أساطيرها، والنجوم التي كانت يوما ما آلهة، ثم تنازلت عن هذه الوظيفة لتبقى دليل إلهام وتذكير بتداول الزمان، لأهل القرى، وهي جمال الليل الأسود الحالك في القرى الحالمة. والشجرة، أية شجرة كانت في القرية، فهي كائن فاعل فيها. والفتاة، وساحة القرية، والأتراب، وأيام الصبا، والبيت وأركانه البسيطة، والأسرة البسيطة أيضا، كلها كانت تولدّ الصورة والمعاني المبتكرة. وهكذا تتوالد الصور، والمعاني. لم يفته شيء هذا الشاعر وهو يقبض على ذكرياته، في قصائده البسيطة، المفارقة. وتظل الصور المبتكرة، تلك الصور التي تبيّن كيف يفلسف الشاعر، أي شاعر كان، ما يلتقطه، ليكون قصيدة خالية من التقريرية، والصورة البلهاء، يدخل فيها رأيه ولكن بلا تطرف، ويدخل فيها قاموسه الشعري، ولكن بلا تجمُل ولا تكلُف، ويُدخل في قصائده، المفردات القروية البسيطة التي لا بد منها، لأنها في نهاية المطاف، تكوّن اللحظة الشعرية التي يكتمل بها النص، وتكوّن المعنى المبتكر في أحايين كثيرة، مما يجعل القارئ الذي لا يفهمها يذهب إلى القاموس، وإلى الانترنت، بل وإلى أصدقائه ليعي هذه المفردة التي كانت خاتمة نص ما من نصوص مسفر الغامدي.: لحظة تهادت الكرة من تحت قدميه متجهة نحو مرمى فريقه لحظة تدفقت الدماء من كل أنحاء جسده وتجمعت على وجهه لحظة صرخ أمامه أحد الأقوياء الحقيقيين: "خذوه صُنيقان" ص 26 وفي نص العصا، ص 54، تتجلى مقدره الشاعر على فلسفة اللحظة الشعرية، وشعرنة الواقع، فلم أجد شاعرا تحدّث عن العصا، يفلسف علاقتها بالأعمى، كما فعل هنا، ومعلوم كيف وردت دلالات العصا في ثنايا الشعر العربي، سألت أبي: كيف تريه ما لا يُرى؟ قال لي: ليست عصا... حين قرر الله أن يخلقه أعمى قطف له غصنا من أغصان الجنة ووضعه في يده. وحتى في العنوان نفسه الذي عنون به مجموعته الشعرية: شجرة يسقيها الشاي، تشعر بلحظة المفارقة، وبابتكار المعنى؛ فالشاي لا يسقي الشجر، والشجر لا يشرب بطبيعة الحال شايا؛ وإنما ماءً؛ لكنْ، أنْ تشرب الشجرة شايا، فهي في الواقع مثل البشر الذين يعيشون في القرية مثلها تماما، إنها كائن حقيقي، بل هي في نظر الشاعر وانطلاقا من معناه المبتكر: انسان على هيئة شجرة، وقد ذكّرني هذا العنوان بمقطع في قصيدة لي بعنوان (أفق يا رشيد) حين أقول: شجر كالبشر بشر كالشجر وفي الفلسفة الهندية القديمة، ومن مبدأ تناسخ الأرواح تذهب أرواح الميتين إلى أحياء أخر؛ فقد تنبت هذه الأرواح المهاجرة في شجرة ما، أو في طائر أو ما شابه. فهل يريد مسفر الغامدي إلى أنْ يلفت انتباهنا إلى تشابه الأساطير بين الأمم، حيث تجلّت شجرتهُ في قريته إنساناً يشربُ شاياً؟ في نص الساحة، ص 109، يكتنز النص الطويل على دلالات شتى، بدءاً من العنوان: الساحة. التي عادة تضم تقريبا كلَّ شيء في القرية ابتداء من أبسط الأشياء، إلى أعظمها. إنها تقع عادة في منتصف القرية، وتُسمّى بأسماء عدّة تختلف من قرية لأخرى، ومن ثقافة لأخرى؛ لكنها في نهاية المطاف تدلُ على معنى واحدٍ هو، المكان الكبير الذي يقع في منتصف القرية. تلك الساحة كانت محطة مهمة من محطات الشاعر وهو يصف قريته، فهو في هذا النص يستحضر مفردات البدء ودلالته في الخلق، فآدم هناك هبط من الجنة إلى الأرض، وقد أكل من شجرة الخلد، والشاعر هنا نزل إلى الساحة، لكنّ المفارقة بين الدلالتين؛ أنّ ساحة الشاعر/ جنته، لم تطرده كما طرد آدم من الجنة، بل أهدته التين، و(معلفها) وفتاتها، بل أهدته كلّ شيء وعلمتهُ كل شيء. نص الساحة يمثل من وجهة نظري مستوى عالياً في نصوص المجموعة التي تتقافز من بين ثنايا المجموعة الشعرية، كاشفة عن بهائها، ودلالاتها، وفلسفتها العميقة. إنّ الوقوف على بقية نصوص المجموعة، سيجعل من كل نص، مشروع مقاربة ودراسة، وهو ما لا يمكن فعله في هذه العجالة من الوقوف على مجموعة تستحق التمعن فيها مليا؛ نظرا لعلو كعب نصوصها الشعرية، التي جاءت في زمن صخب، وابتعاد عن القصيدة الجميلة، فكانت شجرة يسقيها الشاي؛ تحاول لفت انتباهنا إلى هدوء القرية، وذكرياتها، وجمالياتها أيضا. ولهذا خرجت هذه المجموعة في هذا الزمن بالذات. وكأن الشاعر قد هرب بذكرياته هذه إلى القرية، فاراً من صخب المدينة وعذاباتها. سعد الثقفي