يشبه الشاعر السعودي مسفر الغامدي قصيدة النثر بالهرب من الازدحام، والسير في طرقات لا ينتبه لها إلا القليل من البشر. في شعره، خصوصاً ديوانه الجديد «شجرة يسقيها الشاي»، هوس بحياة طبيعية «كنا نعيشها في يوم من الأيام». ويذكر مسفر الغامدي أن الشعر ذهب إلى أماكن بعيدة، فيما النقاد يراوحون في أماكنهم. يعلن الغامدي في حوار مع «الحياة» موقفاً ضد الصراعات الشعرية، إلا أنه يكترث كثيراً للغة التي يكتب بها، وما إذا كانت بنت عصرها أم لا، فهو يرى أن هناك من الشعراء من يكتب عن اليومي بلغة تجاوزها الزمن. ويفضل صاحب «حيناً من الضوء» تسمية القصائد نصوصاً، والديوان مجموعة. «شجرة يسقيها الشاي» مجموعة جديدة بعد صمت أعوام عديدة.. لماذا هذا الصمت؟ - قد يكون الصمت حكمة في بعض الأحيان، ولكنني لا أدعي الحكمة على الإطلاق. ربما الباعث الأساسي هو القلق. من السهل أن تكتب عملاً ما، ثم تكتب تنويعات عليه فيما بعد، لكن يصعب أن يشكل العمل الثاني خروجاً على العمل الأول.. تحدياً له ولذاتك. هل ترى أن الانتقال من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر يشكل تطوراً في تجربتك؟ أم هنالك رؤى تغيرت؟ - حملتُ قصيدتي العرجاء من القرية إلى المدينة. اكتشفت أنها يجب أن تمشي على قدمين سليمتين، فتعلمت الوزن. كتبتها موزونة مقفاة، ولكنني كنت أشبهَ برجل يركب حصاناً، ويتجول به بين السيارات. كان علي أن أكتب قصيدة تفعيلة، تشبه السيارات الحديثة، وأن أنطلق بها في الطرق السريعة والشوارع العامة. بعد فترة اكتشفت لذة السير في الطرق الفرعية، في الأزقة، خلف واجهات البيوت. قصيدة النثر تشبه الهرب من الازدحام، والسير في الطرقات التي لا ينتبه لها إلا القليل من البشر. ربما اختصاراً للوقت، وربما للبعد عن الضوضاء، وربما التفافاً على ما اطمأن الناس إليه لقرون عدة. الحياة رحلة طويلة من الاكتشافات والمغامرات المشوقة، ومن يقف عند نقطة معينة، فهو غير جدير بها. في المجموعتين: «حيناً من الضوء» و«شجرة يسقيها الشاي» يظهر الهوس بالقرية، وكأنها فقط تحررت شكلياً في الثانية قياساً بالأولى. لماذا كل هذا الهوس بالقرية؟ - ليس هوساً بالقرية، ولا بالطفولة، ولكنه هوس بحياة (طبيعية) كنا نعيشها في يوم من الأيام: نأكل مما نزرع، ونلبس مما ننسج، ونتكلم كلاماً يشبهنا ويشبه الأشجار والجبال والأودية من حولنا. نعمل - رجالاً ونساء - من دون الحديث عن حرمة اختلاط، أو خطورة تحرش. لم تكن الأشياء وقتها تهبط بمظلات من السماء، بل كانت تنبت من الأرض (يصح ذلك حتى في مدن ذلك الزمان). القرية هنا هي استعارة شعرية أكثر منها قرية حقيقية، وبالذات في المجموعة الثانية.. هي الحياة التي أضعناها، ولم نتعلم بعد كيف نعيش حياة بديلة، بعيداً عن الحياة (المعلبة) التي نحياها. هل الحنين إلى الطفولة هو ما قاد الشاعر مسفر الغامدي إلى كتابة سيرته الذاتية (سيرة طفولته بشكل أدق) من خلال مجموعة؟ - في الطفولة تكون معظم حياتنا أمامنا، وكلما كبرنا كلما تقلصت حياتنا. لو كان الإنسان محدداً بسن معينة (سبعون سنة مثلاً) لصُغر سنه كلما امتدت حياته. تسأل الرجل صاحب ال64 سنة: كم عمرك؟ وسيقول لك: عمري ست سنوات. سيحسب ما تبقى له من سنوات، لا ما فات من سنواته. ربما هي استعارة أيضاً لحياة كانت فيها كل الحياة أمامي، ولم أكن أنفقت منها إلا النزر اليسير. لماذا لم تظهر القصيدة اليومية في المجموعة الجديدة، وربما غابت كلياً في المجموعتين: (حيناً من الضوء) و (شجرة يسقيها الشاي)؟ - المجموعة الأولى مقسمة إلى قسمين، القسم الثاني «الأحوال» غطى أكثر من نصف المجموعة، وهو قسم مخصص للقصيدة اليومية، إضافة إلى أن معظم ما كتبت من نصوص خارج المجموعتين، يندرج تحت المعاش واليومي، ومع ذلك أنا ضد الصراعات الشعرية، مهما كانت المبررات التي تدعو إليها. المهم بالنسبة لي هو اللغة التي أكتب بها، هل هي ابنة هذا العصر أم لا؟ هناك من يكتب عن اليومي بلغة تجاوزها الزمن، فهل هو معاصر لمجرد أنه كتب عن أمور معاصرة؟ هناك من يرى بأن المجموعة يغلب عليها السرد، إذ يمكن أن تتطور لتصبح عملاً روائياً، والبعض الآخر يجرد النصوص من الشعر. ما هو موقفكم من ذلك؟ - بدءاً من نهاية السؤال: لا موقف سلبي لدي من ذلك. كما أن لنا خياراتنا المتعددة في الكتابة، فللآخرين خياراتهم في القراءة أو الحكم. حين نتحدث عن سيرة معينة، فإن أول خيار متاح أمامنا هو السرد. التحدي أن تأخذ السيرة إلى منطقة شعرية. قد لا تكون شعرية خالصة، ولكنها مغلفة به على كل حال. لا يهمني كثيراً التصنيف أو الانتماء الكامل إلى جنس أدبي محدد، المهم أن يحقق العمل متعة ما، إضافة ما، مغامرة ما.. البعض لم يزل ينكر بأن هذا النوع من القصائد شعر، بل أن البعض صنفها كقصة قصيرة جداً، ما موقفكم من هذا الهجوم؟ - أفضّل أن أسميها نصوصاً لا قصائد، كما أفضل أن أسمي الكتاب مجموعة لا ديواناً. مفهوم القصيدة والديوان، بالنسبة لي، يشكل انتماء لشكل الشعر والكتاب، ربما ينتهي عند حدود قصيدة التفعيلة. ثم لسنا في ملعب كرة قدم، لأدافع حين يهاجم الآخرون، أو استعمل تكتيكات كروية من قبيل «خير وسيلة للدفاع هي الهجوم»، بل نحن في ساحة فنية «تعولمت» فيها الأجناس الفنية، واختفت الحدود إلى حد كبير فيما بينها. الغنائية في المجموعة واضحة جداً، إذ يرى البعض أن المجموعة لا تتقاطع مع الآخرين، إذ تسعى غنائيتها وذاتيتها إلى الانغلاق على الذات. ما رأيكم في ذلك؟ - «لا أحد يستطيع أن يحرس عزلته إذا لم يعرف كيف يكون بغيضا». يقول سيوران في شذرة من شذراته. ربما هو بغيض لأنه أناني: يحب ذاته، ويرى أن الكون يتمحور حولها، وهي أنانية محمودة بشكل أو آخر إذا تعلق الأمر بالشعر. على أنني لا أحب أن أحرس عزلتي إلى هذا الحد، أريد أن أترك نافذة للص ما، لا تلذ له القراءة إلا سرقة. أولئك الذين تعودوا على ولوج الكتب من البوابة الرئيسة، ربما لن يجدوا في هذه المجموعة بوابة رئيسة ليلجوا منها. أحب القراء (اللصوص) الذين يعرفون ماذا يسرقون، وكيف يسرقون؟ تتحول الطفولة إلى ينابيع، وليس مجرد ينبوع واحد، تمدك بما تشاء من عوالم ورؤى ومشاهد. هل نستطيع القول إنك عثرت في هذه الينابيع على عناصر هويتك الشعرية؟ - من دون عين الطفل، يظل الشاعر عاجزاً عن الاندهاش بما حوله. علينا أن نمتلك لياقة طفل يرى الأشياء بيديه وقدميه. بجسده كله، وليس بمجرد عينين لا ترى إلا سطح الأشياء. لن تعثر على ما هو جدير بالشعر، إلا إذا استطعت أن ترى الأشياء وكأنك طفل يراها للمرة الأولى. أن تعرف أن كل ما هو موجود في هذه الأرض، حياً كان أم جامداً، ومهما بلغ قدمه، يوجد فيه ما هو جديد على الدوام، ولكننا نحتاج إلي عيني طفل لكي نراه. كثر هم الشعراء الذين يعودون إلى القرية، لكن قلة جداً من هؤلاء الشعراء، وأنت واحد منهم، من ينجح في رفع تلك العوالم إلى مرتبة النشيد الإنساني، الذي يمكن لأي قارئ أن يجد فيه صورته التي يحب، فهل كان من السهل عليك أن تفعل ذلك؟ - أتمنى بداية أن يكون توصيفك صحيحاً، ولو أن وصفاً مثل «النشيد الإنساني» يبعث على القلق والخوف. لم يدر بخلدي أبداً أن أرفع من تلك العوالم. كان كل همي أن أقبض عليها كما هي. أن أرتفع بما أكتبه إلى مستواها. الكتابة عن هذه العوالم كانت متعة رافقتني سنوات عدة. ربما الصعوبة جاءت فيما بعد، حين فكرت أن أضم هذه النصوص في مجموعة واحدة، إذ كان علي أن أبحث عنها في كثير من الدفاتر والقصاصات. أن أختار وأحذف وأضيف وأنقح... لكنها صعوبة لذيذة على كل حال. هل سيأتي يوم ينتهي فيه هذا الولع بالقرية والطفولة؟ - بالطبع لا. كلما كبرنا كبرت طفولتنا معنا. كلما اتسع العالم من حولنا، ازداد شوقنا إلى العش الأول الذي غردنا فيه للمرة الأولى، مهما بدا ذلك العش ضيقاً على أجسادنا اليوم. هذا على الصعيد الحياتي بشكل عام، أما على الصعيد الكتابي فربما نعم. هل يمكن القول إنك حاولت كتابة سيرتك الذاتية، ولكن شعراً؟ - ليست سيرتي الذاتية بشكل دقيق، بل هي في معظمها سيرة لكائنات الطفولة والقرية من حولي. كل رجل، امرأة، عجوز، جبل، شجرة، فتاة، بيت، طريق... كل شيء رأيته أو لا مسته في ذلك الزمن، فانحفر أثره عميقاً في داخلي، لأحمله معي أينما رحلت، وكيفما كتبت، حاولت أن أستعيده في هذه المجموعة. هل كان دافعك لكتابة هذه المجموعة، هو تطهير الذات من دنس المدينة، أم هو البحث عن خصوصية شعرية، وفقاً لتنوع العوالم واختلافها من قرية إلى أخرى؟ - ربما. نحن ملوثون كثيراً ونحتاج إلى غسل أرواحنا، أو عملية (refresh) بلغة العصر، بعد كل فترة. قريتنا الآن لم تعد قرية حقيقية، أصبحت هي الأخرى ملوثة، لذلك علينا أن نعود في الزمان أيضاً. بالنسبة للخصوصية فالموضوع لا يتعلق فقط بالموضوع، بل باللغة وطرائق الكتابة، القرية وعوالمها لن تحقق خصوصية ما لمجرد حديثنا عنها. لا نقاد اليوم يمكن الإشارة إليهم بصفتهم نقاد شعر، قصروا تجربتهم عليه وحده، إذ أصبح هؤلاء «متحولين» من نوع أدبي إلى آخر، بحسب الموضة. في رأيك هل يضر هذا بالشعر، أم بالنقد، أم بهما معاً؟ - لا يمكن في البداية أن ننكر على الناقد أن يعدد اهتماماته النقدية، بحسب الأدوات التي يمتلكها، وينتقل من فن إلى آخر. من الشعر إلى السرد إلى الفنون البصرية الأخرى، التى أصبحت علامة من علامات العصر الذي نعيشه. ولا يمكن أن نطلب من ناقد أن يكون أسيراً للشعر فقط. الذي يمكن إنكاره والاندهاش منه، هو أن تجد ناقداً لا يتذوق الفنون، بل ينطلق في كتاباته من مهمة وظيفية وبحثية بحتة. من وجهة نظري أن أساس النقد هو التذوق. هو أن تمتلك مخزوناً هائلاً من المحبة والكره للكثير من التجارب الكتابية التي قرأتها، أو تلك البصرية التي شاهدتها، لتستطيع أن تميز بين الجميل والقبيح، وبعد ذلك تستطيع أن تسأل: لماذا هذا قبيح؟ ولماذا ذاك جميل؟ من دون هذه القاعدة الذوقية المتينة، لا يمكن أن يكون الناقد ناقداً. فيما يخص الشعر، الأمر أكثر تعقيداً. مع الأسف هناك قلة من النقاد يمكن أن تتواصل مع الشعر في هذه الأيام. الشعر ذهب إلى أماكن بعيدة. تخلى عن النشيد الجماعي وأصبح صوتاً فردياً خالصاً، فيما النقد بقي ثابتاً في مكانه منذ عقود طويلة، وذلك بالطبع يضر بالشعر والنقد معاً. عناق الشعر والموسيقى يخلصهما من «الضوضاء» لكي ينجح الشعر فإنه يحتاج، في رأي الشاعر مسفر الغامدي، إلى حاضنة شعبية، ويقول رد على سؤال عن كيف يرى المشهد الشعري في المملكة والعالم العربي الآن؟ في ضوء مرور الكثير من الدواوين والتجارب المهمة من دون أن يلتفت إليها أحد، وهل اللحظة لم تعد لحظة شعرية، إلا بما يمثله للشاعر نفسه؟:»يشاع في اللغة الإخبارية التي تحاصرنا في هذه الأيام، أن أية ثورة تحتاج، لكي تنجح، إلى حاضنة شعبية. الشعر لكي ينجح، يحتاج كذلك إلى حاضنة شعبية. المشكلة الكبرى أنه حتى الحاضنة النخبوية لم تعد موجودة كما كانت في ثمانينات القرن المنصرم على سبيل المثال. أتفق معك: هناك الكثير من التجارب المهمة سعودياً وعربياً، التي تعاني من الإهمال، ربما لأن الشعر لا يتناسب مع اللهاث الذي نعيشه. نحن نجري على الدوام، والشعر يحتاج إلى لحظة وقوف وتأمل. نحن نثرثر على الدوام، والشعر يحتاج إلى لحظة صمت». وسئلته «الحياة» السؤال الآتي:» في مدن عربية وأجنبية، يترافق إلقاء الشعر مع الموسيقى، ما يخلق حالاً إبداعية متفردة تقرب الشعر من المتلقي، هل ترى أن هذا المزج يمكن أن يسهم في عودة الاهتمام بالشعر، ولماذا يغيب عن منابرنا هذا المزج؟»، فجاء رده:«هذا النوع من (العناق) موجود في بعض منابرنا، وإن كان بشكل خجول ونادر. ماذا يمكن أن تقول لعضو نادي أدبي تقترح عليه مثل هذا الاقتراح، فيقول لك لا يجب أن يتم الخلط بين الفنون والمؤسسات. الموسيقى مكانها المناسب جمعيات الثقافة والفنون! بل بماذا تصرخ في وجه كائن آخر من كائنات الأندية الأدبية العجيبة، إذا اقترحت عليه هذا المزج فسارع بالتجهم في وجهك وهو يعظك: يا أخي اتق الله. الموسيقى حرام! الشعر هو نحت للكلام، والموسيقى هي نحت للصوت. حين يلتقي نحات الصوت مع نحات الكلام، فإن كثيراً من العوالق الترابية ستختفي من السماء. كثيراً من الغيوم والحدائق والطيور ستهبط في المكان. لا نريد أن يتكئ الشعر على الموسيقى كعجوز هرم، بل نريد لهما أن يتعانقا نداً لند. أن ينحتا الكلام والصوت معاً، ويخلصاهما من الكثير من الضوضاء والكلام النشاز، الذي علق بهما».