يعد الإعلام من أهم مظاهر العصر الحديث، حيث باتت الثورة الإعلامية مواكبة بشكل متواصل وسريع لكل ما هو جديد في العالم، حتى بدا أن كل أمر سواء كان ناجحاً أم لا، يرتبط وصوله الى الناس بالإعلام مباشرة، حيث استطاعت الثورة الإعلامية ووسائل الاتصال أن تجعل من العالم قرية صغيرة بكل معنى الكلمة، وهو ما أكسب الرسائل الإعلامية أهمية كبيرة، لا سيما في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بحيث بات بمقدور أي فرد أن يلعب دور القناة التلفزيونية، لكن هذا شيء والعمل الإعلامي المحترف شيء آخر، ففي المثال الأول قد تلعب العواطف دوراً في نقل الحدث، كما يلعب فقدان المهنية دوراً في عدم نقل الصورة كما يجب. هذا الواقع يدفعنا الى التفكير ملياً بالدور الذي تلعبه قنوات التلفزة الرسمية وغير الرسمية التي تعمل في إطار المؤسساتية، وفي إطار الترتيب الوظيفي الذي يقسم المهام، في سبيل نقل أو توجيه رسالة إعلامية ناضجة، تدرك المعنى الحقيقي للخبر، وكيفية نقله بمهنية وموضوعية، بحيث تكسبه المصداقية اللازمة. والحقيقة أن ما قادنا لهذا الحديث هو تلك الفوضوية والانفعالية التي سادت بعض قنوات التلفزة، خلال محاولة الإنقلاب التي وقعت في تركيا ليلة الجمعة الماضية، حيث وقع العديد من هذه القنوات مع الأسف في مطبات لا معنى لها، بسبب تسرعها وتهورها وتشنجها وانفعالها غير المدروس، والتعامل مع الحدث بمنطق العواطف أحياناً، والرغبة في تسجيل سبق صحفي بأي شكل من الأشكال، بغض النظر عن العناصر اللازم توفرها في الخبر الصحفي، من حيث ضرورة أن يكون موضوعياً، قبل كل شيء، ولا تنقصه المصداقية، ومدعماً بالثوابت اللازمة والبراهين، ولعل ما يلفت النظر هنا، هو في الواقع الأسلوب المهني والاحترافي بكل معنى الكلمة الذي اتبعته قناة العربية خلال الأزمة، في التعامل مع الحدث منذ اللحظات الأولى لوقوعه. فهذه القناة تعاملت بموضوعية مع الأحداث، وعدم تسييس ما يجري، وإنما الاكتفاء بدورها كقناة إخبارية تنقل الحقيقة كما هي وتتسم بالموضوعية والمصداقية، فها هي العربية التي فوجئت كغيرها بما جرى في تركيا تتعامل في تغطيتها للأحداث هناك بشفافية ما غابت عنها منذ انطلاقتها، فلا هي أعلنت موقفاً سياسياً، ولا هي وقفت كناقل للأحدث من دون وعي، سواء مؤيدة أو معارضة، وإنما تناولت ما حدث في هذا البلد بشفافية عالية، وأمعنت في تقديم التحليلات الضرورية، التي تنطلق من وجهات النظر العلمية، ولا تعتمد على العواطف أو المواقف السياسية أو الانتماءات الحزبية. منذ لحظة الانقلاب الأولى راحت العربية تنقل لمشاهديها ما يجري هناك بكل أمانة ودقة من دون أن تحاول التأثير على مزاج أو قناعات المشاهد، وهو أمر يمليه الاحتراف الحقيقي والمهنية العالية في العمل الصحفي الاحترافي. كما أن هذه القناة المهمة والتي استطاعت أن تترك أثراً وبصمة واضحة لها على مستوى الإعلام العربي والعالمي، بقيت على مسافة واحدة بالنسبة لكل القوى السياسية التركية على اعتبار أنها قناة إخبارية حيادية همها الأول والأخير نقل المعلومة بكل أمانة إلى المتلقي، وليس بث وتوجيه الرسائل السياسية أو الحزبية، كما هو الحال في بعض القنوات العربية وغيرها التي وقعت في الفخ وتورطت بالحدث، التي عجزت لا عن فهم ما يجري فحسب، وإنما تسرعت في تحليل الأزمة الطارئة، بشكل جعلها أضحوكة في نظر المشاهدين الذين يبحثون عن الخبر الصادق والمحايد والمؤكد، ونجحت العربية هذه المرة بتغطيتها بعيداً عن كل مظاهر التسييس والتشنج، فقدمت بذلك رسالة وتغطية إعلامية بارزة، كانت الأقرب إلى عقل المشاهد، والأسرع وصولاً إليه. ولذلك عندما فشل الانقلاب في تركيا شمخت العربية كما هو دائماً لكونها لم تنجر إلى ديماغوجية البعض وتسرعهم في اتخاذ القرار، وأثبتت من جديد كما هو حالها دوماً أنها تتمتع بإدارة واعية، ويسيرها ويعمل فيها كوادر إعلامية كفؤة لا ينقصها لا الخبرة الإعلامية ولا الوعي السياسي، والمقدرة على قراءة الأحداث بعين خبيرة مطلعة، ورؤية واضحة. وإننا بهذه المناسبة ليطيب لنا أن نهنىء هذه "العربية"، التي أثبتت مرة أخرى أنها صرح إعلامي بكل ما في الكلمة من معنى، وأنها تمتهن العمل الإعلامي ليس كارتزاق كما تفعل بعض القنوات الإخبارية، وإنما كرسالة تحافظ من خلالها على شرف المهنة، وتحترم قواعد العمل الصحفي، والثوابت التي قام عليها، والقواعد الأخلاقية التي تؤطر العمل الصحفي المميز الناجح. أخيراً وليس آخراً نقول إن الدرس الذي قدمته العربية هذه المرة أيضاً، تجعلنا نقف باحترام لها كواحدة من كبريات القنوات الإخبارية العربية والعالمية، كما يحدونا ذلك إلى ضرورة التأكيد على وجود إعلام عربي واع ومدرك ومحايد وموضوعي، في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها أمتنا العربية، والأحداث التي تعصف بالإقليم أيضاً والعالم أجمع.