أورد الدكتور سعد الصويان في كتابه الرائع (الصحراء العربية) نصوصًا جميلة تتحدث عن بعض آداب إنشاد الشعر في المجالس، وهي نصوص أود إشراك القارئ الكريم في الاطلاع عليها تمهيدًا للانتقال للحديث عن ضرورة ترسيخ مفهوم يُمكن أن نتفق مبدئيًا على تسميته: "آداب نشر الشعر" بحكم انتقالنا من مرحلة طغيان الشفهية إلى مرحلة التدوين والكتابة والنشر. وتُبين لنا النصوص التالية شدّة شغف الناس في مرحلة زمنية سابقة بالشعر وتقديرهم للشعراء، وكذلك حرص الشاعر نفسه على مستوى قصيدته، وذلك بعدم عرضها إلا في مكان لائق وعلى من هم جديرون بالاستماع إليها ومن لهم قدرة على إدراك ما تحمله القصيدة من دلالات وما تتضمنه من جماليات. النص الأول يوضح مدى التزام المتلقين بأدب الإنصات وعدم انشغالهم بأي أمر آخر عند إنشاد الشعر، ومن الجميل أن النص يُشير إلى أحد الشعراء الشعبيين الكبار وإلى ما يُمكن وصفه بخضوع الجلساء لطقوسه الخاصة عند إلقاء أشعاره، يقول النص الذي أورده الصويان: "من أدب المجالس أن لا أحد يقاطع المنشد وهو يلقي قصيدته. ويقال إن الشاعر المعروف محمد العوني يطلب من الجميع أن يصمتوا تمامًا وينصتوا له وحتى سباحهم يمنعهم من التسبيح بها وهو ينشد شعره وإذا ما لاحظ أية حركة أو عدم انتباه لما يقول قطع الإنشاد وصمت، وربما ترك المجلس"! العوني كنموذج على شعراء عصر سابق لعصرنا حريص على عدم انشغال المتلقين بأي شأن آخر أثناء إنشاد قصيدته، ولو حدث أي انشغال فإنه يمتنع عن إنشاد القصيدة لأن الانشغال يعني عدم احترام المتلقي لطقوس إنشاد الشعر وربما يكون في ذلك إشارة صريحة لعدم الرغبة في الاستماع للقصيدة والاستمتاع بها. النص الآخر الذي أورده الصويان يُصور لنا أمرًا قد يعتقد البعض بأنه من المبالغات مع أنه أمر مألوف وطبيعي إلى عهد قريب، قبل أن يُبتذل الشعر في القنوات والمهرجانات الترفيهية واحتفالات الأعراس، يقول النص: "وإذا صدف أن قدم ضيف والمنشد يلقي قصيدة في المجلس فإن القادم يقف على المدخل لا يجلس ولا يسلم على الحضور حتى الانتهاء من إلقاء القصيدة. والراوية الجيد عادة لا يبدأ الحديث إلا إذا طلب منه الحضور ورجوه بإلحاح أن يتحفهم بما عنده لأنه بهذه الطريقة يضمن أنهم سينصتون له ولن يعترضون على روايته أو يشكون في مصداقيته، ويقولون في أمثالهم أن ثمن القصيدة أو السالفة هو أن يطلبها الجمهور 'ثمن السالفة طلبتها'". في النصين السابقين إشارة للشروط الصارمة التي فرضها الشعراء في عصور ماضية وكان لها دور جلي في فرض احترامهم وزيادة العناية بأشعارهم، فالقصيدة لم يكن لها "ثمن" سوى رغبة المتلقي القوية واستعداده لترك كل شيء من أجلها. كان هذا في الماضي، أمّا الآن فالكل يُلاحظ بأن معظم الشعر أصبح بلا ثمن وقلّت قيمته لأن فئة من الشعراء تتبرع بعرضه على الجمهور باستمرار في جميع وسائل الإعلام وفي جميع وسائل التواصل الاجتماعي من دون أن يُطلب ومن دون وجود الراغبين في الإنصات له. انتقل إلى مسألة النشر وطباعة الدواوين، لاسيما وأن كثيرًا منّا قد عايش أجواء حضور الشعر مطبوعًا في معرض الرياض الدولي للكتاب، فقد توفر في المعرض عشرات الدواوين الجديدة لشعراء شعبيين تتفاوت مستويات الإبداع لديهم وينتمون لأجيال مختلفة، وجلس بعض أولئك الشعراء على منصات التوقيع في انتظار الراغبين في الحصول على نسخة موقعة، ويستطيع المتابع ملاحظة عزوف القراء عن دواوين جديدة لشعراء كانت أسماؤهم متوهجة ولامعة قبل أن يستسهلوا عملية النشر، ويصبح إصدار ديوان مطبوع عادة شبه سنوية لمجرد إثبات الحضور في معارض الكتب أو رغبة في الكسب المادي ومن دون وجود ما يستحق النشر. في المقابل يمكن ملاحظة لهفة القراء ورغبتهم في اقتناء دواوين الشعراء المبدعين الذين يصدرون للمرة الأولى بعد سنوات طويلة من العطاء الشعري المتميز، ومن بين الدواوين الجميلة التي كنت حريصًا أشد الحرص على اقتنائها ديوان شاعر أعتقد بأنه يستحق أن يُعد نموذجًا رائعًا للشعراء الذين يحترمون المتلقي سواء من ناحية الاهتمام بعدم نشر القصيدة إلا حين تبلغ درجة عالية من الجمال والإبداع، أو من ناحية عدم استعجاله في إخراج ديوانه المطبوع الوحيد الذي ظل عشاق الشعر ينتظرونه ويُلحّون عليه لإصداره لعقود من الزمن، الديوان هو ديوان الشاعر الكبير عبدالله بن نايف بن عون الذي صدر بإخراج مميز ومادة شعرية غزيرة وغنية بالإبداع، وقد ذكر مشعل بن عون -وهو ابن الشاعر- في رد له على أحد المعجبين الذين استغربوا تأخر صدور هذا الديوان بأن الشاعر لم يُقدِم على إصدار الديوان إلا بطلب من الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان، وهنا نتذكر أن "ثمن" القصيدة هو طلبها ممن يستحق تلبية طلبه، كما يؤكد على ذلك النص المذكور آنفًا. وكم هو رائع أن نجد في ديوان ابن عون نفسه مُساجلة بديعة بينه وبين الشاعر هادي بن جلبان، الذي يبدو أنه أحد المعجبين بابن عون، ويُعبر ابن جلبان في قصيدته عن إعجابه الشديد بأسلوب ابن عون في كتابة الشعر ويُطالبه بمواصلة الكتابة وعدم الانقطاع، يقول في أبياتها: دايم بيوتك يابو نايف لها ذوق والا الشعر زينه وشينه كثيري تسمو معاني شعرك الراقية فوق سهلٍ بحال وحال صعب وعسيري بأسلوب سهل وممتنع غير مطروق ينقاد للمعنى بسلك الحريري أتوق لأشعارك ويدفعني الشوق وأدري بعد به ناس تشتاق غيري أرجوك لا تبخل بكلمه ومنطوق واصل خطاك الثابته بالمسيري واتحف جماهيرٍ لها أشعارك تروق مثل الزهور الفايحة بالعبيري فرايدٍ وسمك عليهن كما الطوق ما تسلب المعنى ولا تستعيري الله جعل بالناس ميزات وفروق هذا يصير لذا وذا ما يصيري قلته لو اني بالتماثيل مسبوق لا شك أعبّر عن مشاعر ضميري واسلم ودم ما خلق بالكون مخلوق وما رف بالجنحان طيرٍ يطيري وما كان من الشاعر الكبير عبدالله بن عون بعد هذا الطلب الذي صيغ ببراعة إلا الاستجابة بقصيدة لا تقل في روعتها عن قصيدة ابن جلبان، وكذلك الاستمرار في الحضور المتوازن ونشر ما يليق بأذواق عشاق شعره. ختامًا أعتقد أن الشاعر المبدع، مهما بلغت درجة إبداعه، في حاجة لمدّة زمنية لا تقل عن عشر سنوات –كحدٍ أدنى- من الحضور والعطاء في ساحة الشعر لتصل قصيدته إلى درجة مُقنعة من النضج والقبول بين الناس، ولتتوفر لديه حصيلة تُمكنه من الانتقاء ونشر الأفضل منها، وتأنّي الشاعر في مسألة نشر القصيدة أو في إصدار الديوان المقروء يُعد من المؤشرات الواضحة على مقدار احترامه للمتلقين وإدراكه بأن الثمن الحقيقي للشعر وهو وجود من يتلهف إلى قراءته والاستماع إليه ومَن هو على استعداد تام لترك الانشغال عنه بأي شأن آخر. د. سعد الصويان هادي بن جلبان