على مدى أكثر من عقدين من الزمن والشعر ظلت الشاعرة الدكتورة فاطمة القرني تعزف على أوتار قيثارة الشعر الأصيل وتخلص لهذا الفن دون أن تكترث إلى صيحات المقللين من شأن هذه الأصالة ودون أن تنجرف نحو بريق الرواية، بل ظلت تهطل شعراً دون تكلف ولا تجوُّز فلا تجد بين قصائدها نفوراً أو قلقاً فانساب شعرها في سبك صحيح ولفظ منضَّد شائق ومعنى رشيق مبتكر. ظلت هذه الشاعرة لا تختار لها من الشعر إلا المجود منه فانهمر على مدى هذه السنين غرراً من الشعر وفرائده صاغته قريحة فياضة. ومنذ أشهر قليلة سكبت هذا العطر في ثلاث مجموعات شعرية تنضح إبداعاً وهي: «عندما يغني.. الجنوب..!» والذي صدر عن دار المفردات و«مطر» وهو من إصدارات نادي الرياض الأدبي وجاء الديوان الأخير موسوماً ب«احتفال..!» وأصدره نادي تبوك الأدبي، وأزعم أن هذه الأعمال تغري الباحثين والنقاد لدراسة تجربة الشاعرة فاطمة القرني والوقوف عند جماليات النص الأصيل. «ثقافة اليوم» حاور هذه الشاعرة وتلمس تجربتها مع ديوان العرب فإلى تفاصيل هذا الحوار: * ما مرد تأخر صدور نتاجك الشعري أكثر من عشرين عاماً، على الرغم من حضور صوتك الابداعي عبر الملتقيات الثقافية في تلك السنوات؟ - تعددت لاءاتي.. تنامت وتقاطعت حتى لم أعد أستبين ماهيتها حقاً، غير انها حمتني إبداعياً وليس العكس، أعني انها منحت تجربتي فرصة نضج ما كانت لتتوفر لو بادرت بنشر نتاجي في مجاميع أولاً بأول، كما أن تواصلي الدائم مع القراء عبر حوالي عقدين من الزمن من خلال زاويتي «إذا قلت ما بي!» في مجلة «اليمامة» وكذلك من خلال الملتقيات الثقافية والإعلامية المختلفة هيأ لي حضوراً ثرياً مُغنياً ربما كان له دوره في طمأنتي على تحقق التواجد إبداعياً، ومن ثم عدم تحمسي لجمع ما كتبته ونشرته من قبل. * صدور ثلاث مجموعات شعرية في أقل من عام واحد، أليس ذلك ضرباً من المجازفة، لا سيما بعد أن عرف المتلقي عن قرب (المرأة الروائية)؟! - سأبدأ من ذيل السؤال.. وأتساءل بدوري: عن أية امرأة روائية تتحدث؟!.. أعيذك بالله أن تظن أن كثيراً من هذا «الهذر» القصصي الذي يتصاخب في ساحتنا الثقافية إبداعاً روائياً حقيقياً!!.. ليس لدينا والله في ميدان الرواية إلا عدد ضئيل جداً من المبدعين والمبدعات الحقيقيين.. هذه هي حالنا وإن صدّرنا سنوياً مئات الروايات! .. أما سؤالك من الشعر.. و«مجازفتي» بنشر ثلاث مجاميع شعرية في عام واحد فهي خطوة نتجت عن وعد مسبق مني لعدد من أنديتنا الأدبية بأن تكون محاضن النشر لأولى طبعات دواويني.. هذ ما حدث.. ومادة الدواوين ابتداء من مدخل كل منها تنأى بها عن تهور المجازفة إلى رتبة الحضور اللائق بدهشة الشعر وتفرده عن كل فن آخر! * يلحظ القارئ في دواوينك الشعرية طغيان الحس الوطني والإسلامي الذي لامسته قريحتك الشعرية، فخرجت قصائدك أقرب إلى تيار الأدب الإسلامي.. ألا ترين ذلك؟ - حاولت وأنا أعد مادة كل ديوان أن تعكس تلك المادة في مجملها صورة منصفة لتجربتي الشعرية دلالة وتشكيلاً، فتنوعت النصوص تبعاً لذلك من حيث موضوعاتها ومن حيث بنيتها اللغوية والموسيقية، ومن المبهج أن يتلمس القارئ تنامي الحس الوطني والإسلامي في كثير منها، غير أنني - مع تسجيل غبطتي هذه - أسجل تحفظي على فكرة تصنيف نتاجات أدبنا المحلي إلى إسلامي وغير إسلامي، فكل مبدعي هذه البلاد مسلمون ولله الحمد، ومن ثم لا أستبيح أن يتجرأ أحد فيجرد أيا منهم مهما زل قلمه أو تعثرت لغته من انتمائه العقدي. * ينتاب قارئ قصائدك إحساس من يستمع إلى نشيد مسموع، وذلك من خلال ضبطك للكلمات بالتشكيل حتى لا يفر المعنى، إلى جانب سلطة التهميش، هل التدقيق والاحتراز بهذه الطريقة ضرورة للشعر؟ - نعم.. التدقيق والاحتراز بهذه الطريقة ضرورة لشعرنا العربي في هذه الأيام التي باتت فيها الفصحى لغة مغرَّبة مغيبة! ... للشعر عندي مهابته وقيمته، أكتبه في مكابدة وحميمية تصل والله في بعض الأحيان إلى حد الإنهاك،.. ولهذا.. فمن المنصف لقصيدتي ولي وللقارئ في الآن نفسه أن أحرص على إخراجها بالصورة التي تجسدها بعميق قسماتها وخالص ملامحها. * ونحن نعيش تطور كثير من فنون الأدب في هذه السنوات، هل ما زال للقصيدة بريقها وللقوافي ألقها ولدولة الشعر أركانها الشامخة بعد زلزال (الرواية) الذي روع كيانها وقلل من رواجها؟ - .. لا أدري لماذا تسوقني هذه الأسئلة قسراً إلى مصادمة الفن الروائي الذي أحبه كثيراً وأستمتع بمتابعة جيد ما يصور من نماذجه؟!! ... يا أخي الفاضل.. أكاد أجزم أنك تدرك كما يدرك القراء الأحبة أن كثرة صدور الكتب التي سماها أصحابها - تجاوزاً - «روايات» لا يعني أن الرواية تتسيد ساحة الإبداع! .. لقد كتبتُ في زاويتي منذ سنوات أننا نعيش «زمن الغواية» لا «زمن الرواية».. وما زلت أردد هذا الوصف.. بل وبقناعة أعمق من ذي قبل!! ثم.. هب أن الرواية أو المسرحية أو القصة القصيرة تطورت لدينا وتزايد عدد ما يصدر من نتاجات.. فهل سينال ذلك من كون القصيدة كانت وستظل سيدة الفنون كلها؟! ... يكفي أن أجمل وصف قد يطلقه أحدهم على فن ما بأنه متميز.. أن يلحقه بكلمة «شاعري».. لتأكيد ذلك التميز! - «الشعر» يا أخي فتنة عصية.. لا ينعم بأسرها إلا قلة من الخلق.. يسعدني جداً أنهم قلة نخبوية نادرة!! * عنونة الدواوين بأسماء بعض القصائد، أليس ذلك احتفالاً بذروة إبداعك الشعري، أم أن هناك قصائد حملتها هذه المجموعات أكثر حضوراً وبريقاً؟ - عنونت الدواوين الثلاثة الصادرة لي بعناوين ثلاث قصائد أثيرة لدي، شكلت بصورة أو بأخرى ملمحاً مهماً من تجربتي في موضوعها أو بنيتها، وهي من أدعى قصائدي قبولاً لدى المتلقين.. هذا - على الأقل - ما لمسته من خلال كثرة طلب الاستماع إليها في أمسياتي من قبل الحضور، وكذلك من كونها من أبرز قصائدي التي استدعت تجاوب ومعارضة كثير من الشعراء والشاعرات لها بقصائد جميلة مميزة بحق. * يلحظ القارئ سرعة الاستجابة الشعرية عند «فاطمة القرني» في كثير من القضايا التي حلت بالأمة، والشاهد على ذلك كثير في بعض قصائدك مثل «س» و«بطاقات» و«عيد» و«صوت البطولة» و«بغداد» و«أخي» و«أفيدونا عن الفتح الحماسي»... السؤال: هل شيطانك الشعري سهل الانقياد إلى هذه الدرجة؟ - ابتداء.. أنا ممن أكرمهم الله بأنسنة شياطينهم الشعرية في مراحل مبكرة من انتمائهم لعالم القصيدة الأخاذ.. صرنا «شلة» من الأصدقاء المؤتلفين في كون حالم.. يتقاسمون فيه فناجين القهوة.. نسائم الليل.. وأنس التغني كلما عنت للبوح نية ولمعت للتغريد بارقة،.. وانتهاءً.. فنعم - ولله جزيل الحمد - أصبحت استجابتي الشعرية لباعث الكتابة أطوع وأيسر من النثرية إزاء مستفز القضايا وعامها كالتي أشرت إليها، وكذلك عميقها وذاتيتها مما يستدعي لغة رامزة أو تناولاً تواقاً مجنحاً، ولعل قراء زاويتي الأسبوعية يلحظون ندرة مقالاتي النثرية في مقابل غزارة نصوصي الشعرية التي أطل عليهم بها من خلالها. * من يحدد الشكل البنائي للقصيدة (الخليلي والتفعيلي).. هل هو الحدث أم هناك عوامل أخرى؟ - عادة.. تتشكل القصيدة لدي تلقائياً بمجرد انغماسي في حمى ميلادها، تتجاسد عبارة حتى ترتسم في صورتها النهائية على الورق، مرة خليلية وأخرى تفعيلية،.. وهكذا..، ولعلي استثني من تواتر هذا التشكل التلقائي بعض قصائد المناسبات، فهذه الأخيرة تفرض علي منبريتها، وتباين مستويات المتلقين فيها اللجوء إلى الشكل الخليلي لما تحدثه الموسيقى العمودية المنتظمة من أثر في شد انتباه السامع وتقريب المعنى إليه حتى بالنسبة لتلك النصوص التي تتسم لغتها ببعد دلالي متعمق، أو جانح للرمزية. * وأنا.. بنت الجنوب! أنت تدري أي وجد.. تبعث الأشعار.. في أهل الجنوب فجأة.. يتقدون.. حدة لا ثورة الموج.. ولا الإعصار.. لا رقص المطر!! .. أزعم ان هذا المقطع من قصيدة «عندما غنى الجنوب!» يكشف عن نفسية الجنوبي ببعديها العاطفي والحاد، لكن على الرغم من انك اتخذت أكثر من مدينة سكناً لك، لماذا بقي الجنوب في مرابع القلب وبوصلة للسفر، رغم سكناك له سنوات قليلة؟ - ولدت في الجنوب، وغادرته أسرتي وأنا لم أجاوز بعد الأشهر الثلاثة الأولى من عمري، لتغدو الطائفوالرياض والدمام محطات ترحل لنا بسبب عمل والدي في القطاع العسكري، ثم أصبحت «تبوك» مستوطن وجداني منذ بدء دراستي الابتدائية حتى ما قبل سنوات قليلة حيث أستقر حالياً في الرياض، ومع أنني لا أزور الجنوب إلا في الاجازات أو في بعضها إلا أنني أكاد أرتحلها دائماً كما هي مطيتي في كل مكان، وبعيداً والله عن أدنى درجة من تعصب، فإن تكون جنوبياً يعني أن تكون ذا شجن وطرب وتطريب بشكل أو بآخر، وأن يمن الله عليك بسكنى شمال وردي ندي السريرة والروح ثم لا تكون فناناً مبدعاً في مجال ما.. فتلك والله ذروة العقوق!! - باختصار شديد.. خلطة تكويني «الجنو شمالية» كانت ولم تزل مصدر الطاقة التي منها أتزود، وبدفئها أحتم وأنهمر لحناً تواقاً مزهراً حتى في أرحب الصحاري صلادة، وأغنى «رياضها» شقاوة!! * هل سيجد المتلقي يوماً «قصيدة النثر» بين أعمالك الشعرية أم أن الطابع الكلاسيكي يبقى المهيمن على تجربتك الابداعية؟ - لا.. لن يجد المتلقي بين أعمالي الشعرية إلا أعمالاً «شعرية» أصيلة النسبة لفن الشعر،.. إذ يظل فن «الومضة النثرية» أو «الخاطرة النثرية» فناً نثرياً يخرج بخلوه من الموسيقى بنمطيها العمودي والتفعيلي من عالم الشعر إلى عالم النثر، وهو خروج لا يعيبه، ونسبة لا تنقص قدره الأدبي ولا قدر مبدعيه، أما لماذا لا أكتب في هذا النمط، فقد كتبتُ فيه أحياناً دون أن أنصرف إليه، إذ لا أدري حقيقة ما الذي يدفعني إلى استنزاف طاقتي تائهة بين حدود الأكوان ما دمت في «موطن الشعر» من سادة الناي والوتر؟!!