أ.د. سليمان بن عبدالله أبا الخيل* الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن اللسان ليجف، والأقلام تتناثر، والعبارات تتقاصر دون وصف ما وصل إليه أرباب التكفير والتفجير من نهايات لا يصدقها عقل، جاوزوا فيها الحرمات، وتعدوا الحدود، وتجرؤوا على الشهر المبارك، والحرم الآمن في ظل فتنة أقضت المضاجع، وآلمت النفوس، وأثارت المكنون، تلك الفتنة المتمثلة في أفكار الغلو والتطرف والإرهاب والأفكار الضالة المضلة التي بدأت ولا تزال منذ زمن، ونتج عنها ما لا يصدقه العقل من الفساد وقتل الأنفس المعصومة، وإراقة الدماء، وترويع الآمنين، واختزان لوسائل القتل والتدمير. إنها صور مؤلمة ومفجعة، يقف فيها العاقل متحيرًا، وتدل دلالة أكيدة على فتنة استشرت، ومحنة استمرت، وشر يجب على عقلاء الأمة التعاون على اجتثاثه واستئصاله، كما يجب منع أسبابه وبواعثه، فلا يكفي أن تلتقي المشاعر المؤمنة، والرؤى المتزنة على رفض هذه الصور الشنيعة، والأفعال المنكرة، والبراءة منها ومن أصحابها، ولا تعالج المسألة ببيان العمومات الشرعية، واستمداد تلك الإدانة من أساليب الإثارة، أو أساليب تنحو إلى التبرير، وإنما يجب أن تتضافر الجهود، وتتكامل الأدوار، وكل منا مطالب بمشاركته، ومتحمل لمسؤوليته أمام الله عز وجل، ثم أمام ولاة أمره ووطنه ومجتمعه، لقد ظهر من خلال الوقائع والأحداث والمتغيرات، وقراءة التأريخ والمؤشرات أنها مؤامرة دنيئة، وعمل إجرامي، ومحاولات فاشلة سوف تنتهي وتتلاشى، ويعلو صوت الحق وتجتمع القلوب والأفئدة والمشاعر على رفضها واستنكارها، ومعرفة أبعادها وبواعثها، ويدرك الجميع أيضًا أنها محاولة اليائس لمن أوجعتهم مواقف الحزم والعزم من ولاة أمرنا -أيدهم الله-، وكشف مؤامراتهم، وأفشلت مخططاتهم، وحمى الله أوطان المسلمين منهم. لكن يبلغ الجرم منتهاه، والإفساد غايته حينما يستهدف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهاجره ومحط قبره، في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي شع منها نور الإسلام، وبلغت رسالته الآفاق، وكانت رسالة الإسلام تحمل الهداية والسماحة واليسر ورفع الحرج، والتسامح والتعايش والتواصل والتعاون على البر والتقوى، إن الذنب ليعظم، ذلك أن للحرم مكانة كبيرة، ومنزلة عظيمة، وفيه من الآيات والأماكن المباركة، يقول الله تبارك وتعالى: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه)، وهو شامل لمسجده صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله وغيره من المفسرين، وقال صلى الله عليه وسلم: «من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره» رواه الإمام أحمد وابن ماجه، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها، ويفد المسلمون إليها تعبدًا لله، وطلبًا لرضاه، وتأسيًا برسوله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» رواه البخاري ومسلم. يضاف إلى ذلك بركة هذه البلدة المباركة لتضاعف العمل فيها كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فان الصلاة فيه تعدل مئة ألف صلاة»، وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن المضاعفة هنا شاملة جميع الحرم والمسجد داخل فيه. وقد ورد الوعيد الشديد على من أحدث فتنة في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم أو أراد بها سوءًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا»، وقال صلى الله عليه وسلم عن أهل المدينة: «من أراد أهلها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء»، وقال صلى الله عليه وسلم: «ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص، أو ذوب الملح في الماء»، قال شيخنا العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث فيها) أي: في المدينة حدثًا أو آوى محدثًا، والحدث هنا يراد به شيئان، الأول: البدعة، فمن ابتدع فيها بدعة فقد أحدث فيها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) فمن أحدث فيها حدثًا، أي: ابتدع في دين الله ما لم يشرعه الله في المدينة: فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، يعني استحق أن يلعنه كل لاعن والعياذ بالله؛ لأن المدينة مدينة السنة مدينة النبوة، فكيف يحدث فيها حدث مضاد لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والنوع الثاني من الحدث: الفتنة، أن يحدث فيها فتنة بين المسلمين، سواء أدت إلى إراقة الدماء، أو إلى ما دون ذلك من العداوة والبغضاء والتشتت، فإن من أحدث هذا الحدث فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". وأعظم بذلك ذنبًا وجريمة أن يقصد المرء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتفجير وقتل الأنفس المعصومة البريئة، ويستهدف رجال أمننا البواسل الساهرين على راحة الزوار، أولئك الصائمون الصادقون الذين أحسن الله خاتمتهم، وقضوا على يد هؤلاء الخونة، وإن سلسلة هذه الأحداث هي محاولات يائسة فاشلة، ومن فضل الله ومنته أنها أحبطت، وتم اكتشافها قبل أن تقع كارثة على المصلين، وما من شك أن هذا التعامل المبكر معها هو جزء من النجاحات المتوالية لأجهزة الأمن المختلفة التي أثبتت الأحداث الأخيرة أنها من القوة والحيطة والدقة والتفاعل السريع مع أي حدث، والتعاطي مع الموقف بما يفرضه الواجب دون تأثير على إيقاع الحياة العامة، ولهذا أقيمت الصلوات، وأتم المسلمون الشهر قيامًا وتهحدًا وتعبدًا دون أي أثر يذكر، وهذا فضل الله وحفظه ومنته، ثم توفيقه وتسديده لقيادتنا ولمن يقومون على أمن هذه البقاع المقدسة، الذين لم تزدهم هذه الجرائم إلا قوة، وتماسكًا واستبسالاً للدفاع عن عقيدتهم ومقدساتهم ووطنهم، وهذا من توفيق الله لولاة أمرنا وتأييده لهم، وحفظه لدينه، ولموطن المقدسات أن تطالها أيدي الغدر والخيانة، والظلم والعدوان، والفساد والإفساد، والله غالب على أمره. إن هذه الأحداث المؤلمة توحي بدلالات من أبرزها وأهمها: ضرورة التوحد والتكاتف والتلاحم على مستوى الوطن الواحد، بل على مستوى العالم الإسلامي لمواجهة هذه التهديدات التي تهدد نسيج الأمة، وتعصف بمقدسات المسلمين وأرواحهم، وأهمية بناء المعالجات على دور الأسرة، فالشباب الذين اختطفوا وجندوا خرجوا من بين الأسر، فما هو العمل الذي قدم لحمايتهم، ثم ما واجبنا في مراجعة معالجاتنا وصولاً إلى خطاب أعمق يشمل الفكر وأدواته وتنظيماته وأحزابه ومنظريه والمحرضين والمتحزبين، الذين لا يشك أن لهم دورًا في التهيئة، وخصوصًا في أحداث مرّت. ومن دلالاتها انحسار هذا الفكر الإرهابي الخارجي الضال واضمحلاله، فهذه الأحداث في هذا الشهر الفضيل، والمكان الطاهر هي بداية النهاية، ومؤشر بأن الفكر في اضمحلال وزوال، ولكن يجب على الجميع تكاتف الجهود، والوقوف صفًا واحدًا ضد كل من يريد العبث بأمننا ومقدساتنا، وكل مطالبٌ بأن يبذل وسعه، بيانًا للحق، ودحرًا للباطل، استنادًا على أصول الشريعة ونصوصها ومقاصدها الآمرة بالوحدة والألفة والاجتماع، المبينة خطر الفساد والإفساد، وأنه عمل المنافقين "والله لا يحب الفساد"، المعظمة لشأن الدماء وحرمتها، ومكانتها عند الله جل وعلا، فمن يقتل مؤمنًا متعمدًا فقد قال الله فيه: "ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا"، ومن يستهدف المتعبدين في أماكن عبادتهم فهو أعظم الظلمة، "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين"، يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسير هذه الآية: "لا أحد أظلم وأشد جرماً، ممن منع مساجد الله، عن ذكر الله فيها، وإقامة الصلاة وغيرها من الطاعات. واجتهد وبذل وسعه فِي خَرَابِهَا الحسي والمعنوي، فالخراب الحسي: هدمها وتخريبها، وتقذيرها، والخراب المعنوي: منع الذاكرين لاسم الله فيها، وهذا عام، لكل من اتصف بهذه الصفة، فجازاهم الله، بأن منعهم دخولها شرعا وقدرا، إلا خائفين ذليلين، فلما أخافوا عباد الله، أخافهم الله"، خصوصًا وأن ذلك يستهدف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهل بعد هذا البيان يمكن لمنصف أن يبرر الأعمال الإفسادية أو يدافع عنها، ولكنها التنظيمات التي تشكل خوارج العصر، والتي قامت بجرائمها وتصرفاتها جرائم سلفها من الخوارج الأقدمين الذين أخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم عن جرمهم وصفاتهم، وقال: «يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم..»، وبيّن أنهم يوجهون سيوفهم وأسلحتهم للمسلمين "يقتلون أهل الإسلام"، وأخبر بأنهم يستخدمون الدين وهم بعيدون عنه فيقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ويحقر أحدنا صلاته عند صلاتهم، وبمقارنة هذه النصوص بما يفعله خوارج العصر المتعطشون للدماء الناكثون للعهود يجد المطلع أنها تنطبق عليهم، وتصف حالهم، وتعري واقعهم، بل إنهم بجرائمهم سبقوا الخوارج الأوائل. وبعد: فإن المسؤولية كبيرة، ونحن أمام منحنى تأريخي، ومنعطف خطير ندفع فيه ضرائب تقصير في مراحل سابقة في التعامل مع الحوادث بموقف رد الفعل أو الاستنكار المؤقت، ونحن بأمسّ الحاجة إلى مراجعة شاملة لمسؤولياتنا، وأن تشمل مواجهتنا كل من له صلة بالإرهاب وصوره بدعم أو تعاطف أو تنظير أو غير ذلك، ويجب أن تفعّل قرارات علمائنا وتكون أساسًا لأعمال شمولية يشترك فيها أطياف المجتمع، لتضمن مسيرة وطنية وفق ثوابت قامت عليها دولتنا، بعيدًا عن إرهاب المعتدين وفساد المفسدين. نسأل الله سبحانه أن يحفظ على هذه البلاد أمنها ورخاءها واستقرارها، وأن يحفظ ولاة أمرنا من كل سوء ومكروه، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يدفع عن هذه البلاد مكر الماكرين، وفساد المفسدين، وعدوان المعتدين إنه سميع محيب، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. * مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية