تحدث معي أحد أصدقاء الغربة عن أعيادنا: "كنا نحتفل ونرقص عرضاتنا وأهازيجنا بأشعارنا وأعذب ألحاننا نختزلها لأعيادنا في كل زاوية وركن من زوايا كل مدينة سعودية، واليوم تجهمنا انطواءً وغرقاً.. حتى ان كثيرنا اليوم ينفر ممّن يعرف ولا يعرف، وكأننا لا نعيش تحت شمس الحياة التي نسيرها نحو البهجة وملامح السرور..!". قد نتفق كثيراً مع ما ذهب إليه الصديق، وقد تنحرف الأسباب بمتغيراتها، وقد تتضح الصورة أكثر تحليلاً عندما نتأمل أعيادنا وابتهاجاتنا واجتماعاتنا ومسببات وأد أفراحنا عندما تصيبها التبعية في مقتلٍ من خلال إصدار قوالب جاهزة نردّدها في أحاديثنا وإعلامنا ووسائل تواصلنا الاجتماعي في كل عيدٍ.. وكأنها تؤكد تناغمنا مع منظومة أنموذجنا الحيّ للسيكولوجيا العامة لحياة أمتنا ومجتمعاتنا، التي جعلت من مراثي معن بن زائدة والخنساء وابن الرومي، امتداداً لأروقة التباكي على الماضي بمناسبة أو دون مناسبة، فغدت الجينات تراوح في خلايا الأمس واليوم والغد بازدراء الخيبة، وامتداداً لثقافةٍ جعلتنا نردّد ونكرّر أبياتاً وحِكماً حاصرتنا كثيراً في دائرة المبرر، حتى غدت أعيادنا مناحةً نتباكى عليها بشطر بيتٍ كئيب يجرنا إلى الإحباط وتبعاته، وورّثناه قاعدةً للأجيال ب"عيدٌ بأية حال عدت يا عيد.."، ونهرب به بعيداً هناك عنا وعن حياتنا، بل وعن ديننا المتسامح الذي يدعو للبهجة وصنع البسمة في كل مظاهر حياتنا رغم مدعيه! وفي منطلق آخر قد لا يستغرب اليوم في مجالس أعيادنا، ينبري كل شخصٍ باستعراض ما ذكراه ما استطاع من مواقف وطقوس المباهج والأعياد القديمة تحت وطأة أسطوانة مشروخة مكررة تطفو بأحاديث محبطة يتداولها "المعيّدون" بسرد يتماهى مع إصدار الحُكم على زمن وأجيال اليوم قسراً وبكل أدوات الجلد والنفي والنهي بأن شعور الفرحة مبتور، حيث لم تكتف تلك الرؤى والأحكام لتستمر إصراراً على استنساخ حياتنا كما هي لزمن قادم بأجياله، وبسلطويتها تعلن ألاّ فرح لهم أصلاً!يقول ماسلو: "إن الذي في يده مطرقة يميل إلى الظن بأن كل ما حوله مسامير"، ومنه فالجميع مشترك في قتل فرحة أعيادنا وطقوسنا وليالينا بدءاً من المعطيات الموروثة السابقة، والحاضرة إلى مجتمعٍ يترنّح زمنه المتسارع بظروفه الاجتماعية والاقتصادية و"التقنية" تحديداً التي نقلتنا إلى غياهب الحياة المادية الزائفة بكل معانيها، فنُفيت الحميمية بين أواصر المجتمع، وسُلمت المشاعر ترهلاً لوسائل تواصل اجتماعي طاغٍ متغلغل بعبارات مستهلكة خالية من الإحساس ودسم التواصل. ومن هنا لم نكتفِ كذلك بإهمال أنفسنا والتجرؤ على طقوسنا الحياتية المبهجة بل أصبحنا وكمسلمات ننقلها إلى حياة أبنائنا ووأد فرحة عيدهم كاملةً بالتواتر من باب الندب والنقد والأنانية.. وكما نريد نحن لا كما يريدون هم، تقول الكاتبة الأميركية جنيفر إيتون: "يجب النظر إلى البيئة باعتبارها مركزاً للفرص التي تمنح أبناءنا الاستكشاف والاطلاع، فتكون بمثابة مصدر للمعلومات والبهجة والسرور وتجعل للحياة معنى"، لذلك فإن معرفة حدود مظاهر فرح الأبناء تجعلهم يتشبعون أماناً نفسياً واجتماعياً، ومرده تأثير كبير في اتجاهات حياتهم نحو حيوات أخرى من التفاؤل والأمل وصناعة الحياة، فثقافة الفرح تحتاج إلى بيئة مناسبة بذرتها تُغرس أولاً في المنزل والمجتمع ومؤسساته التربوية متناسقةً مع مساحات الأجيال التي يرغبون فيها باتجاهاتهم ووسائلهم واستعداداتهم، حتى لو وقفنا أمام ذواتنا وأمام ثقافة التجهم ومصدريها وأبوابهم الموصدة بسد ذرائع البهجة والسرور. وطننا الكبير والحياة الجميلة فيه حاضرة بين الحنايا، تحفنا من جميع الجهات وما بينها، تحاول الترحيب بنا، احتضاننا، لا تريد شيئاً سوى قناعة، ابتسامة، تغيير من الداخل يجعل لنا ولها معنى، فالإنسان هو الإنسان، هو من يفرض ويمرر الحزن والكآبة حتى الإحباط، هو نفسه من يصنع الفرح ويعمل على إدخال البهجة والسرور إلى نفسه والآخرين بثقافة الفرح والمودة والحب والعلاقات الإنسانية، والآمال الزاهية التي تسعدنا وأجيالنا حتى نقطف بها ثمار الحياة وبهجتها، ولكي يظل جمال أعيادنا ضياءً في قلوبنا؛ ما علينا سوى أن نكتب عيدنا وهجاً للحياة، للأوطان، للإنسان.. وباسمها جميعاً فلنرقص ونعرض بأهازيج العيد للوطن وبسمة مستقبله دون جلد للذات والانصياع لمناهضي البهجة وذرائعهم، وكل عام ووطننا عيدٌ لنا. عيدية رغم كل محاولات الإرهاب الدنيئة اليائسة، سنبقى في صف واحد بعرضاتنا وأهازيجنا فرحين بعيدنا وبانتصار وطننا على كل عدوان غاشم، مرددين لدولتنا وجنودنا البواسل في الداخل والخارج إباءً وإجلالاً.. أنتم عزنا، حقيقتنا الخالصة على جباه الزمن، وسنين الأكفّ القوية المتماسكة، وصدق عطاءات الأوطان الأبدية التي لم تزل تروي شرايين الوطن ليخفق قلبه بسلام، وتكبر خطواته وتشع بشاشته رغم كيد الخائنين الناعقين الحاقدين، وتبقى "سارعي للمجد والعلياء" تصدح في الأرجاء والعقول والقلوب؛ سيكتبكم الوطن على سطور صفحاته، وكتب تاريخه بحروف من فخر الحياة وأكسيرها، دمتم لنا عيداً وأنتم ووطننا بخير. [email protected]