لم أقف على كتاب يرصد تاريخ الحجابة وشؤونها على مدى السنوات الماضية، فكل الكتب التي أرّخت لمكةالمكرمة تناولت طرفاً يسيراً من تاريخ الحجابة جاء عرضاً في حديث أو التمس المؤلف جانباً منه، واليوم يصدر الكاتب السيد حسين الهاشمي كتابه المرجع في هذا الشأن تحت عنوان "طبقات حجاَّب الكعبة" الصادر عن مؤسسة الريان ناشرون ببيروت يبرز في صفحاته التي جاوزت ال(450) صفحة، التاريخ المفصل لطبقات الحجابة منذ سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل عليهما السلام، إلى القائم بحجابة الكعبة اليوم في عصرنا الحاضر مروراً بالعصر الجاهلي والراشدي والأموي والعباسي والعثماني موضحاً أبرز أعلامها وموضحاً عن ماهيتها. يقول الشيخ عبدالقادر بن طه الشيبي – رحمه الله – السادن السابق لبيت الله الحرام في تقديمه للكتاب: ركز المؤلف في التاريخ لمهمة السدانة وتدرجها بينهم في الأكبر سناً وهذا الجانب لم يُعْطَ حقه في كتب التاريخ والطبقات في ما طالعت، كما أنه تحدث عن علاقة السدنة بمن حكم مكةالمكرمة وعن دورهم في مجتمعهم في الماضي والحاضر. أغلب الكتب التي أرّخت لمكةالمكرمة تناولت طرفاً يسيراً من تاريخ الحجابة ملاحظات ومآخذ يتتبع المؤلف في مطلع تمهيده للكتاب الحضور القليل للشيبيين في كتب الطبقات التي لم يعرف عنها إلا النزر اليسير الذي حوته بطون بعض الكتب والمقالات والفصول التي ذكرت شيئاً عنهم في صفحات بعض المجلات القديمة، مؤكداً أنهم قد غبنهم التاريخ وعَزَبَت عنه جل أخبارهم.. كما دون المؤلف بعض الملاحظات ومآخذه على كتب التراجم منها: الاضطراب في ذكر سلاسل أنسابهم وتدوين تراجمهم من شواهد قبورهم دون تحقيق ولا تمحيص وكذلك كتب الرحّالة التي توسعت في تفاصيل مكة أو بيت الله الحرام أو الحج تجدها لا تذكر اسم شيخ السدنة على وجه التحديد ولا يسمون اسمه وإنما يكتفون بنحو قولهم: شيخ الشيبيين، أو شيخ الحجبة، وعلى الرغم من أن كل أهل الأخبار الواردة في كتب التاريخ أجمعت على أن سدنة الكعبة منذ العصر الجاهلي حتى الآن هم من نسل شيبة بن عثمان الأوقص بن أبي طلحة بن عبدالله بن عبدالعزى بن عثمان بن عبدالدار بن قصي القرشي ومصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعثمان بن طلحة بين الناس: خذوها يا بني أبي طلحة!! خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم. لذلك لم يجرؤ أحد على أن يناقضه أو ينزع المفتاح من أيدي الحجبة عبر التاريخ الإسلامي الطويل وما اعتراه من فتن ونكبات. ويستنتج المؤلف الهاشمي من امتلاك بني شيبة لمفتاح الكعبة وسدانتها عدة أمور منها: أن هذه الأسرة العريقة لم يكن لديها ميل نحو الحياة السياسية وهذا أصلح لهم منذ مطلع الرسالة الإسلامية، وكذلك محبة الناس لهم فلم يكن لهم عدو من الناس، وأيضاً هناك مبدأ السن قد حسم الخلاف بين الحجبة فلم تصل إلينا أن هناك خلافاً حصل يوماً بين أفراد بني شيبة على تولي المشيخة. حجبة وحجاب ثم يفرد المؤلف الباب الأول للحجابة وتعريفها وتاريخ بني عبدالدار بن قصي، ثم مضى في تعريفه للحجابة والمصطلحات المرادفة لها كالسدانة والخزانة والفرق بينهم لذلك تُعرّف الحجابة لغة بأنها من حجب الشيء وستره والحاجب هو البواب ومنه حاجب الخليفة وتجمع على حجبة وحُجَّاب ومنه حجبة الكعبة أي ملاك مفتاحها ويكون لها أمر فتحة وغلقه، والحجابة في الاصطلاح هي ولاية مخصوصة، لقوم مخصوصين، لشيء مخصوص والمقصود بالولاية: خدمة البيت وكسوته، وتولي أمره، وفتح بابه وإغلاقه، وهي مقدرة شرعاً لأناس مخصوصين من بني عبدالدار من قريش لأمر مخصوص هو بيت الله الحرام، وهي مأثرة من مآثر قريش التي أبقاها الإسلام ولم يبطلها شأنها شأن السقاية التي كانت للعباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه ولعقبه، كما يوضح السيد الهاشمي الفرق بين الحاجب والسادن والخازن فيقول: إن الحاجب يحجب وإذنه لغيره، أما السادن يحجب وإذنه لنفسه، وقد اختص السادن بألقاب منها: فاتح الكعبة، وحاجب الكعبة، وخازن الكعبة، ورئيس السدنة، وشيخ الحجبة، والسادن الكبير، ونقيب الحجبة، وهي مهمة مقصورة على بني أبي طلحة ثم انحصرت في بني شيبة بن عثمان الأوقص بن أبي طلحة إلى آخر الزمان، ولهم الفضل في تغييب مقام إبراهيم عليه السلام في بعض شعاب مكة حتى لا يظفر به القرامطة حين أباحوا مكة وبيت الله الحرام، كما أن هذه الأسرة الكريمة هي التي حشت الحجر الأسود بالمسك واللك لما شعبه رجل زنديق. طبقات الحجاب يفصّل المؤلف في القسم الثاني من الباب الأول آل عبدالدار بن قصي حيث يقول: ان قريشاَ هم بني النضر بن كنانة وتجتمع هذه القبيلة في فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد، ووالد عبدالدار هو قصي بن كلاب الذي عرف بقريش الأصغر وهو سيد من سادات مكة وأحد أشراف قريش المنجبين وأم عبدالدار هي: حُبَّى بنت حُليل بن حبشية الخزاعية وولدت لقصي غير عبدالدار، عبد مناف وعبدالعزى، والله سبحانه وتعالى اختار من أبناء قصي بن كلاب، عبدالدار ليكون أول سادن للبيت العتيق ثم أتى بعده ابنه عثمان وجاء بعده حفيده عبدالعزى بن عثمان ورزق عبدالعزى عبدالله أبو طلحة وكان هذا الأخير الحاجب بعد أبيه وسيد بني عبدالدار في الجاهلية وأنجب عبدالله: طلحة وعثمان الأوقص وقد قتلا يوم أحد، وقد خرج من صلب طلحة ابنه عثمان الذي هاجر في السنة التاسعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه خالد بن الوليد فقال عليه الصلاة والسلام لما رآهما: "رمتكم مكة بأفلاذ كبدها"، وقد دفع الرسول الكريم مفتاح الكعبة إليه وأشرك معه كافة بني جده أبي طلحة، ثم يمضي المؤلف موضحاً الأبناء والأحفاد من بين عبدالدار سواء من أسلم منهم أو من مات كافراً، بل انه يذكر أسماء أمهاتهم مفصلاً بالكامل. في حين يعقد الباب الثاني لطبقات حجاب الكعبة في الجاهلية والإسلام، بل يفرد من حجب الكعبة قبل بني عبدالدار، ويذكر أن أول من تشرف بهذه المهمة هو سيدنا إبراهيم عليه السلام وجاء من بعده ابنه سيدنا إسماعيل عليه السلام ثم حجبها عدد من بنيه وجاء من بعدهم جرهم بن قحطان حتى دب الضعف فيهم فهلكوا وانقرضوا بعد أن بغوا بمكة وظلموا وأكلوا مال الكعبة المهدى إليها، إلا أن مكة لا تقر فيها ظلماً ولا بغياً بل تخرجه فكانت تسمى (النَّاسَّة)، وحين صعد نجم قبيلة خزاعة وحكمت مكة ولي أمر البيت الحرام لعمرو بن لُحي الخزاعي الذي حجب البيت وأفراداً من قومه دهراً، ثم جاءت بعد خزاعة قريش ليكون لها أمر الحجابة دون الناس أجمعين ومن هنا يبدأ التاريخ الحقيقي لقريش مع حجابة الكعبة وذلك بعد أن تزوج قصي بن كلاب ابنة سيد خزعة وهي حُبَّى بنت حليل وهو الذي كان له أمر فتح الكعبة وغلقها وحين صار أمر الكعبة لابنه أبي غبشان بن حليل باع مفتاح الكعبة لقصي بزق خمر فقيل في المثل: "أخسر صفقة من أبي غبشان" فلامته خزاعة ودقت طبول الحرب بينها وبين قريش فكان الظفر لقصي واستولى على مكة وخططها وجمع قريشاً بها ولذلك سُمي مُجَمِّعاً حتى قال فيه الشاعر: أبوكم قصيُّ كان يُدعي مُجَمِّعاً به جمع الله القبائل من فهرِ فخلَّف قصي – كما ذكرنا – بنين هم عبدالدار ثم عبد مناف فعبد العزى وعبد قصي وخص قصي مفتاح الكعبة – أي الحجابة – لابنه عبدالدار وهكذا دواليك توالت هذه المهمة لعقبه حتى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولكثرة من تولى السدانة حيث وصل عدد من تسنم منصب السدانة (110) سدنة كلهم من بني عبدالدار ثم قصرت الحجابة على بني أبي طلحة بن عبدالله بن عبدالعزى بن عثمان بن عبدالدار القرشي، لذلك فإن المؤلف حصر أسماءهم جميعاً وعرف بهم من حيث المولد والوفاة وعمود النسب ومن عقَّب من الأبناء وهو جهد جبار وعمل متكامل يُعْنى بمن ولي الحجابة عبر التاريخ بعد أن جمعهم المؤلف الهاشمي في هذا المصنف الهام فله الثناء الحسن.