يأخذني الظن في بعض الأحيان - وبعض الظن إثم - أننا نعيش بمجتمع يبدو بلا قضايا حقيقية تستحق أن يهرق من أجلها كثير من المداد... ويأخذني الإثم في أوقات كثيرة إلى محاولة اكتشاف أي تلك القضايا تشغل الناس - بعامتهم - أو على الأقل تستحوذ على جزء من تفكيرهم وبعض نقاشهم المستتر أو المكشوف... وقد أجد أن كثيراً منها ينتظم في إطار يكرس مفاهيم لا تخرج عما كنا نعاني منه يستهدف.. قمع الآخر واسكاته ووسيلته المفضلة ادعاء الحقيقة وامتلاكها والاحساس الكبير بألا معنى سوى معنى انبثاق الفكرة من جراب مالكي الحقيقة أو مدعيها.. وفي وسط مثل هذا أي فكر يرجى له ان ينير شيئاً من ظلامات تتراكم فوق بعضها البعض. اتساءل لماذا يكثر لدينا الكُتاب وتقل فعالية الكتابة.... لماذا يكثر الخطباء وتضمحل آثار الخطابة وأحياناً كثيرة تتراجع مصداقية الخطيب... لماذا يكثر القول في كل مجلس ويتنادى الناس لكثير من مجالس (الدردشة) والنقاش بينما لا نجد أثراً يذكر لفعل تلك المثاقفة أو قل بدقة أكثر لا توجد معايير يقاس بها أثر التحول إلى قضايا حقيقية وجادة. ماذا نريد في هذا المجتمع؟ ماذا نطمح إليه؟ ما هي آليات التفكير في قضايا وشؤوننا؟ كيف ننظر إلى المشكلات من حولنا؟ ما هي أولوياتنا؟ ماذا عن مستقبلنا؟ كل سؤال من هذه الأسئلة يقود إلى استشكال أكبر وأخطر.. ربما نجملها في سؤال آخر: هل حقاً نحن نعرف ما نريد؟ لم تكن في يوم من الأيام الصحافة المحلية أو وسائل الإعلام الرسمية المختلفة.. معبر دقيق عن تحولات المجتمع وان كانت وسيلة تفاعل اتصالي الإرسال فيها كان أكبر بكثير من تأثير الاستقبال من المتلقي في معادلة لم تكن متوازنة البتة.. ولذا لم تكن تلك الأدوات معبر دقيق ومواكب لاستشكالات الناس التي تثير الكثير من الجدل وتتطلب الكثير من العمل.. لقد ضلت صحافتنا المحلية - باعتبارها أكثر الوسائل الإعلامية المحلية مرونة - إلى حد كبير صحافة يوميات أو صحافة رأي يميل إلى التجريد والانهماك ربما في قضايا الآخر أكثر من محاولة كسر حاجز الخوف من مناقشة الذات.. التي تحتمل الجدل وينالها كثير من الاختلافات في الرأي وقد تتطلب إعادة النظر في مجمل علاقات الناس بعضهم ببعض وعلاقاتهم بالسلطات من حولهم على اختلاف مستوياتها واختصاصاتها. لكن اليوم... بات الوضع مختلفاً.. فليست شبكة الانترنت ولا الفضائيات سوى قنطرة لاكتشاف التفاعل الحقيقي في العقل الجمعي... عندما يلقي بقذائف من كل نوع تلطم وجوه المراقبين لمشهد الصمت الإعلامي الرسمي الذي مازال يصم أذنيه عن الإعلام الموازي الذي هو بات يصنع الرأي العام وإن كان احياناً بطريقة شوهاء وغير مكتملة وتكتنفها الكثير من أوجه النقص والعيوب وأحياناً كثيرة تكشف عن مستوى عقلي ووجداني يميل هو الآخر كل الميل للعنف والقمع والاقصاء. هناك علاقات حتماً غير مكتملة بين المجهود الحكومي الذي يتعامل الناس معه من أجل معاشهم وتحقيق كفاياتهم وبين مجهود آخر غير رسمي وغير حكومي هو الذي يصنع قناعات الناس ويشكل خياراتهم.. وهنا نتحدث عن القناعات باعتبارها قناعات فقط وليس باعتبارها قناعات تصل إلى صميم اكتشاف مصدر العلة ومكامن الخلل أو الاخفاق أي ان الحديث هنا حديث توصيف وليس تشخيص.. وبين التوصيف والتشخيص مسافة كبيرة علينا ان نجتهد فيها ايضاً لاكتشاف كيف اصبحنا مجتمعاً بلا قضية. إذا اعتبرنا ان الإعلام الموازي الذي يصنعه ثلة من الناشطين من ذوي الاتجاهات المختلفة في وسائل النشر غير الخاضعة للرقابة الحكومية.. وهي قادرة حتماً - كما كانت في السابق منذ انتشار ثقافة الكاسيت وإلى اليوم - على صناعة توجه قد لا يستطيع بالكلية فرض وجهة نظره على المجموع لكنه حتماً قادر على صناعة آفاق من الرؤى المضطربة لجيل لم يتذوق أو لم يكتشف بعد لذة القراءة المختلفة ولم يتعاطى بعد طعم التسامح مع المختلف ولم يتشرب ثقافة الحوار الراقي والمهذب ولم يقرأ على اساتذته بعض فصول التاريخ الدامي الذي ظللنا ندفع ثمنه منذ ذلك الحين وحتى اليوم.. ويستثمره الطامعون منا بالسلطة والمال والنفوذ.. ولم تتح الفرصة له عملياً لاكتشاف ان قضاياه الحقيقية تكمن في مكان آخر ليس عنوانه فقط الخوف على الهوية المحلية الضيقة بكل أبعادها من الذوبان أو التطور أو التغير في اتجاهات يظنها ابناء تلك الرؤية ومريديها ومروجيها انها الخطر المحدق بهم والجاثم على صدورهم والقاضي على وجودهم. عندما تحدق بنا الأزمات من كل نوع.. فلا نكتشف سوى شراهتنا البشعة لاذكاء الخصومة، واستدعاء التاريخ، والتباكي على الهوية التي يمكن ان تضيع أو تذوب أو تُغلب... وهي ليست هوية بالمعنى الكبير للهوية.. انها في الغالب انتماء ضيق لفكر احادي النظرة.. حيث الحقائق المدعاه عناوين لا يمكن تجاوزها أو إعادة انتاجها على نحو آخر. عندما تحدق بنا الأزمات من كل جانب فلا نستدعي سوى خوفنا من بعضنا البعض ورغبة البعض في تدمير الآخر وكأن الأرض لا تتسع لوجود كليهما.. فتلك نذر الكارثة، وليست الكارثة في الاختلاف.. الكارثة كل الكارثة في محاولة الغاء الآخر ومصادرة حريته في التفكير والتعبير والزامه بما ما لم يلزم به الله الناس. نحن مجتمع بلا قضية.. عندما نتوجه بكل ثقلنا - وهو من وزن الريشة على مستوى الفكر والتحليل - وبالذات في هذه المرحلة البالغة الصعوبة والبالغة العتمة نحو الذات فنزيدها تدميراً.. ونلقي في وجه كل محاولات الترميم المزيد من العوائق وهي ليست عوائق هينة يمكن تجاوزها بسهولة انها في نظر واضعيها وحراسها والقائمين عليها الفاصل الحدي بين الدين والدنيا.. وكأن رحابة هذا الدين لا تستوعب خارجاً من سياق النص أو قارئاً جديداً لمكونه أو مستشكلاً عند محطاته. نحن مجتمع بلا قضية.. عندما يتحول الجهد الفكري في الإعلام الموازي إلى أداة قمع موجهة لكاتب فرد هنا أو هناك.. مقال هنا أو هناك.. كل منا يستطيع ان يجمع الآن من شاشة الانترنت عشرات بل مئات المقالات والمناقشات - عفواً المناوشات - حول شخصية كاتب واحد اختلفت عليه الآراء.. فقط لأنه يثر الجدل في مجتمع تستهويه صناعة اعدائه كما تستهويه نزعة قديمة لصناعة أبطاله وتصنيمهم. نحن مجتمع بلا قضية عندما نهرق المزيد من الوقت والجهد واستفاذ الطاقة حول اختلافات فقهية يسع الناس انها اجتهادات فحسب.. لا تلزم الآخرين لأنها من فقه الأولين، بينما ينصرف النظر عن محاولة الاجتهاد فيما يخص مستقبلنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. سوى من محاولات ضئيلة تعني نخباً أكثر ضآلة.. وكأن هذا المجموع ليس ثمة قضايا لديه سوى تلك التي تربطه بالماضي.. دفاعاً حد الاستغراق وانكشافاً حد شهادة الموت لكائن مازالت تتردد أنفاسه وهو يصر على أن يلفظها. نحن مجتمع بلا قضية عندما يتوجه نشاط البعض من المحسوبين أو الحاسبين أنفسهم من ذوي الاتجاهات المختلفة من ليبرالية أو إسلامية أو قومية نحو رصد نشاط بعضهم البعض وكأن هذا الوطن لا يستوعب المختلفين.. وهو حقاً لا يستوعبهم إلا إذا اصبح لهذا المجتمع قضية حقيقية تجمع بين أطرافه - مهما بدى اختلافها - وتعزز الاحساس بقيمة ما يستطيع المجموع انجازه مما لا يقدر أي طرف لوحده عن اجتراحه أو تحقيقه. نحن مجتمع بلا قضية عندما يتصدى البعض بكل ما يملك لمواجهة مواطنين آخرين، تحريضاً لنزعة الاقصاء وزرعاً للأحقاد ونبشاً للخصومات التاريخية فقط لأنهم مختلفين مذهباً أو توجهاً أو رؤية.. وعندما نتلهى بخصومات الداخل - التي ليس لها حل - هل يكون لدينا قضايا حقيقية تنتمي إلى وطن وليس لمذهب ضيق أو فكر احادي - أيا كان نوعه - يختصر العالم بجملتين ويوصد أبوابه دون نسائم الحرية الفكرية ومقومات التسامح واستيعاب المختلف طالما كان هذا المختلف مواطناً مسالماً له حق المواطنة وعليه واجباتها. متى سيكتشف اولئك ان العالم أكبر من حلم ضيق صنعه الإنسان الخائف المتوجس من أخيه الإنسان.. وكلاهما يستحق الكثير من الرأفة الاشفاق وغفران الزلات والخطايا. نحن مجتمع بلا قضية عندما نتآكل من الداخل ونتلهى بخصومات تلبس حيناً لبوساً دينياً وحيناً لبوساً مناطقياً ضيقاً.. وحيناً لبوساً ثقافياً متعالياً.. وقد يتساءل العقلاء بعد فوات الأوان يا ترى ماذا حققنا من كل هذا.. ألم يكن جديراً بنا اكتشاف ان القضايا الحقيقية ليس لها سوى عنوان واحد انها بحث شاق في مستقبل قلما سأل عنه أولئك.