كم واحد تمنى أن يحج ويزور بيت الله الحرام لكن لم يتمكن من ذلك لعدم وجود وسيلة مواصلات أو لعدم القدرة على الحج، وكم من واحد عاش ألم الحزن على تفريطه في الذهاب للحج مع قدرته، لكن غلبت عليه الأماني ولم ترق إلى الأفعال فبات مهموماً على مضي ركب الحجاج حيث تركوه بأمانيه التي لايجني منها سوى الندامة، فالأماني وحدها لاتفعل شيئاً يستفاد منه هذا صاحبنا يقول عن نفسه بعدما فاته ركب الحجيج: ليت من هو مع الحجاج روح مقبل معهم على ذيك الفيافي راكب معهم ودرب الخير سمح احرم ولبّى وحول البيت طافي ماقسم للي عن العزم متسدح والحصاد من التمني مايشافي لقد كانت رحلة الحج وتمنيها كانت حلم الأوائل والأواخر أيضا، نساءً ورجالاً، كانت رحلة مميزة تختلف عن كل رحلة، حتى في وقتنا هذا لاتزال تحتفظ بقيمتها لسمو هدفها، ولمعزة مقاصدها وشرفها. هذه الرحلة كانت فيما مضى وكما يرويه آباؤنا عن أنفسهم وسلفهم كانت رحلة العمر، ذات مزيج من الخوف والقلق وفي الوقت نفسه فرح وسرور، وهذا المزيج ولد البكاء عند الفراق لصعوبة الرحلة ولبعد مكة عن كثير من بلدان نجد وأطراف الجزيرة. كانت المطايا وظهور الإبل هي الوسيلة الوحيدة، وكانت الرحلة طويلة المسافة طويلة الزمن، مفقود من يرحل حيث لاتوجد اتصالات وقت الرحلة، وكان يتولى القيام بالرحلة بعض المحتسبين الذين لديهم الخبرة والدراية والقدرة أيضا في مثل هذه الرحلات، بالإضافة إلى كونه ذي خبرة أيضا في التجارة، فيعد العدة قبل موسم الحج ويجهز مجموعة من الإبل وبعض الحجاج لديه ما يركبه، كما أن الحجاج يعدون لهذه الرحلة مايلزمهم من الأكل وقت الرحلة والبقاء في مكة والعودة منها، وأغلب ما يحملونه من الزاد إما دقيق أو طعام جاهز كالقرصان حيث تبقى لجفافها دون فساد، والبعض من الحجاج يحمل في طريق عودته، شرائح اللحم الناشف (الجاف) ويسمونه (قفر) يعدونه في مكة بعد ذبح الهدي حيث يتوفر كثير من اللحم ولاسبيل لحفظه إلا بالتجفيف مع التمليح وتعريضه للهواء حتى يجف ويفقد جميع ما فيه من مياه. هذه الرحلة خفف من عنائها بعض الشيء وجود السيارات فيما بعد أي في الأربعينات الهجرية وما بعدها، وإن كانت تحفظ بكثير من مشقتها لعدم وجود الطرق المزفلتة، لكن صار الوضع أسهل لنقلها الكثير من الأمتعة، وعدد اكثر من الحجاج أيضا، كما أنها أسرع وأقل تعباً من الإبل وأكثر سلامة أيضا. كانت القرية كلها تستعد ليوم الرحلة وتودع الحجاج أمام البوابة الرئيسة، والجميع في حالة فرح ممزوج بالقلق والبكاء، ويتجسد ألم الفراق في الموقف خاصة أن البعض منهم لم يفارق أهله وبلدته طيلة حياته، وكانوا يسيرون الإبل بمعنى يسيرون معها مسافة من البلدة قد تصل إلى ثلاث كيلو أو اكثر. وفي رحلة العودة لاتكاد الفرحة توصف، وهذه الفرحة العارمة بحجم ذات الفراق المؤلم، لكن من المفاجآت ما يحزن حيث يفاجأ البعض بفقد عزيز عليهم أثناء الرحلة لم يعلم به، لعدم وجود اتصالات مسبقة. وللعودة فرحتها على القرية كلها صغاراً وكباراً، وهذه الرحلة تتكرر عدة مرات بنفس المواقف أيضا.