يعد دخول المملكة إلى منظمة التجارة العالمية حدثا هاما واستراتيجيا سيطال تأثيره جميع المجالات والقطاعات المحلية،ومن أهم هذه القطاعات القطاع الصحي الذي يعد سوقا مغريا للاستثمار الأجنبي بالنظر إلى عدد السكان المتزايد وزيادة الطلب المتوقع وحجم الإنفاق حيث يبلغ حجم الإنفاق الحكومي فيه ما يقارب 7٪ من الميزانية العامة للدولة تخصص لوزارة الصحة بالإضافة إلى ما تنفقه القطاعات الحكومية الأخرى و المؤسسات الصحية الخاصة على مرافقها الصحية. ولإلقاء المزيد من الضوء على تأثير انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية على القطاع الصحي قامت «الرياض» باستطلاع آراء المختصين في الإدارة الصحية واقتصاديات الصحة حول هذا الحدث. حيث أوضح الدكتور مسفر الدوسري أستاذ اقتصاديات الصحة واقتصاديات التنمية المساعد في جامعة الملك سعود أنه في البداية لابد من تذكر بعض المسلمات المهمة، والتي منها أن «منظمة التجارة العالمية» هي وكل من «البنك الدولي» و«صندوق النقد الدولي» تعد من أهم وسائل العولمة، وأن المنظمة تمثل ناديا للجبابرة والعمالقة يسوقون إليها سوقا ولا يستثنون حتى الأقزام المهازيل الذين لا يكادون يملكون شيئا. يسوقونهم بالرغبة حينا وبالرهبة أحيانا. حتى تورطت بعض دول العالم في التزامات لا قبل لها بها، وربما مقابل وعود جوفاء.فهي منظمة مسيطر عليها وموجهة وتفرض على الجميع نموذجا أحاديا تدخليا اختير بعناية وأطلق في الوقت المناسب. ولم يؤسس هذا النادي إلا بعد أن استعد اللاعبون الكبار استعدادا جيدا وبعد أن نضجت وتفوقت اقتصاداتهم بسبب الدعم والحماية ومساهمة القطاعات الحكومية في دعم التطور والتقنية والبحث العلمي ردحا من الزمن، ثم أسست هذا النادي الذي يمنع دول العالم الأخرى من الدعم والحماية ويعرقل النمو الاقتصادي لهذه الدول ويؤصل الازدواجية في الاقتصادات الفقيرة ويبقي التبعية الاقتصادية للدول الغنية عن طريق إحكام قبضة الشركات العملاقة متعددة الجنسية وعابرة الحدود باستثماراتها. كما أشار إلى أن استعدادات الانضمام إلى النادي بدأت عبر مفاوضات غير متكافئة وذلك نظرا للتفاوت الهائل والفجوة الكبيرة في القدرات التفاوضية والفنية والعلمية والتنافسية، وقد استعدوا لهذه المفاوضات طويلا. وعدم تكافؤ الفرص والقوى أعطى الأقوى القدرة على اتخاذ القرار داخل هذا النادي ولمصلحته هو. لذا فإن مواضيع المفاوضات وجداول أعمالها رتبت لفتح أسواق الصغار أمام صادرات الكبار دون مراعاة للأبعاد الاجتماعية والإنسانية والقيمية. بل وصل الأمر إلى حد إفشال قد يكون متعمدا لبعض دورات المفاوضات لصالح شركات الأدوية الكبرى والتي وصل الأمر بها إلى تهديدات خطيرة لعل أهونها التهديد بتجريب الأدوية على شعوب الدول التي لم تخضع لمطالبها أثناء المفاوضات. وفيما يتعلق بالقطاع الصحي تحديدا أشار إلى أن النظام الاقتصادي الذي تسير عليه وتنشره كل من العولمة ومنظمة التجارة العالمية هو الرأسمالية. والرأسمالية نظام طبقي يتحيز لبعض فئات المجتمع على حساب فئات أخرى. ولذا فهي فيما يتعلق بالقطاع الصحي تتبنى أنظمة لا تساوي بين أفراد المجتمع فيما يحصلون عليه من خدمات صحية لا كما ولا كيفا، ومن أمثلة ذلك التأمين الصحي وخصخصة القطاع الصحي وتضخيم القطاع الخاص على حساب القطاع الحكومي وغيرها مما يلغي دولة الرفاه ويشجع الدول على التخلي عن تقديم الخدمات الأساسية لأفراد المجتمع لصالح القطاع الخاص والمستثمر الأجنبي. فمنظمة التجارة العالمية تسهل فتح الأسواق المحلية بل تستبيحها أمام استثمارات شركات التأمين الصحي العملاقة وشركات الأدوية الضخمة التي لا تهمها صحة المريض بقدر اهتمامها بالأرباح. ثم تحمي هذه الشركات بأنظمة مثل منع الدعم والحماية للاستثمارات المحلية ونظام حماية الحقوق الفكرية ونظام المشتريات الحكومية وحقوق العمال، رغم أن الرأسمالية لا تدافع عن حقوق العمال. وتوقع الدوسري - في ظل منظمة التجارة العالمية - التوسع الكبير في التأمين الصحي والخصخصة لمرافق القطاع الصحي الحكومية والضغط على الحكومات لتجاهل واجبها في تقديم أساسيات الحياة مثل الخدمات الصحية، وذلك رغم خطورة تحرير الخدمات التي تمس حياة البشر. وبسبب حدوث ذلك في ظل زيادة كبيرة في الطلب على الخدمات الطبية وضعف في القدرة على الإشراف الفني والتقني، فإنه سيقود إلى ثورة ضخمة في القطاع الصحي تؤثر تأثيرا سلبيا كبيرا على جودة الخدمات الطبية وكل من عرضها والطلب عليها.كما تؤثر على الأسعار وإمكانية الوصول إلى الخدمة الضرورية. بل تؤدي إلى الضغط على ضمائر الأطباء من أجل تهميش أخلاقيات المهن الطبية والتي من أهمها عدم التمييز بين المرضى لأي سبب وعدم تقديم مصلحة غيرهم على حسابهم وعدم ربط حصولهم على الخدمات الطبية بإمكانياتهم المادية ومستوى دخولهم. وختم الدوسري حديثه بخبر لا يحتاج إلى تعليق وهو أن المديرة التنفيذية لبرنامج الإيدز، قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا «جوان سبت» أرسلت رسالة في 18 فبراير 2004 م إلى الممثل التجاري للولايات المتحدةالأمريكية «روبرت زويليك» تناشده فيها بعدم استخدام المفاوضات لتقييد قدرة دولة على الحصول على أدوية الأيدز لمرضاها. وسبب ذلك أن المعاهدات البينية الموقع عليها فيما يتعلق ببراءة اختراع الأدوية قد تحرم تلك الدولة من الدواء الرخيص لهذا الداء الخطير لمدة عشرين سنة. ومن جانب آخر، تحدث د.علي الشايع استشاري الجودة الصحية عن منظمة التجارة العالمية فذكر أنها شهدت منذ نشأتها في عام 1995م نمواً استثنائياً في تجارة البضائع بمتوسط 6٪ سنوياً مما ساهم في إنشاء نظام تجاري قوي ومزدهر غير مسبوق. وذكر أن المنظمة أسست ليكون من مهامها ضمان انسياب التجارة بأكبر قدر من السلامة واليسر والحرية لضمان الإمداد المستمر بالسلع والخدمات بجميع أنواعها مع ضمان اختيار أوسع لهذه السلع والخدمات من حيث الجودة والعدد، وضمان سوق مفتوح للمنتجين والمصدرين لإقامة عالم اقتصادي يسوده الرخاء والأمن وإلى ذلك من مميزات كدعم السلام وتعزيزه ومعالجة النزعات بين دول الأعضاء بطريقة بناءه وإرساء الأسس والقواعد التي تجعل الحياة أيسر للجميع ومنع تسلط الحكومات اقتصادياً على مجتمعاتها وغير ذلك من المميزات. وأشار إلى أنه رغم ذلك فإن هناك الكثير من السلبيات التي بدأت تتضح في بعض الدول التي طبقت بنود الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية بسبب الضغوط التي تمليها الدول الصناعية الكبرى ومن ورائها شركاتها العملاقة لتنال مميزات عالية داخل الدول النامية مما سيعرض سلع وخدمات هذه الدول إلى الإغراق من الشركات الأجنبية الكبرى وبالتالي يضعف من قدرتها على المنافسة وبالتالي فرض تحديات وقيوداً جديدة على الصناعات والخدمات داخل هذه الدول. مما زاد من خشية الكثير من الدول النامية ومنها المملكة العربية السعودية من تطبيق بنود هذه الاتفاقية ومتطلباتها، والتي أدت في دول الأعضاء النامية إلى الكساد والبطالة ونقص إيرادات الدولة كما حدث في دول جنوب امريكا وبالتالي انخفاض قدرة هذه الدول على الإنفاق على الخدمات الصحية الأمر الذي قد يؤدي إلى تحكم الشركات العملاقة من خلال منظمة التجارة العالمية في إدارة الاقتصاد الداخلي للدولة وتقليص سيادتها السياسية، وأشار الشايع إلى أن تهافت عدد كبير من الدول للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية يضع المملكة في موقف لا تحسد عليه في الوقوف في معزل عن التكتلات الاقتصادية. فالمملكة شأنها شأن غيرها من دول الأعضاء عليها مواجهة الوضع الاقتصادي الجديد والعمل على مواجهة المد الاقتصادي الجارف لجميع أوجه الحياة في مجتمعنا وخاصة في مجال الخدمات الصحية، كما ذكر أنه يتوجب البدء وبأسرع وقت ممكن في إعداد دراسات وأبحاث لوضع خطة عمل وطنية لكيفية تجنب صحة المجتمع لسلبيات العولمة والمخاطر الصحية المصاحبة للعولمة لضمان عدالة توزيع الخدمات الصحية لجميع المواطنين بكفاءة عالية وحسب إمكاناتهم المادية، وعمل مؤتمرات وورش عمل للاستفادة من تجارب دول الأعضاء القديمة في مجال الخدمات الصحية مثل التجارب المستفادة من دولة الصين ودول جنوب امريكا وغيرها، والتمثيل الجاد من قبل وزارة الصحة في المشاركة في جميع الاجتماعات الدولية التي يمكن أن تتطرق إلى مناقشة إعداد البروتوكولات والاتفاقيات التقنية ذات الصلة، والعمل على توسيع مساهمة القطاع الخاص في مناقشة الاتفاقية المتصلة بالصحة، وإجراء قراءة واضحة للاتفاقية التجارية لحقوق الملكية الفكرية (TRIPS) تبين التوازنات بين حقوق وواجبات جميع الأعضاء فيما يتعلق بالصحة العامة والدواء. والإسراع في تطوير المؤسسات الصحية من خلال إنشاء وتنفيذ مشروع نظم المعلومات الصحية على مستوى الدولة شاملاً السياسات والإجراءات والإستراتيجيات وخطط العمل اللازمة وتدريب العاملين عليها كما يجب الإسراع في وضع وتطبيق معايير الجودة لزيادة القدرة على المنافسة في تجارة الخدمات الصحية.و الإسراع في خصخصة المؤسسات الصحية العامة وتقوية القطاع الخاص لمواجهة الشركات الطبية الأجنبية، وتدريب العاملين في القطاع الصحي ورفع كفاءتهم العلمية والعملية والإدارية لمواكبة التطور في الخدمات الطبية عند دخول شركات عملاقة في هذا المجال تجنب عدم قدرتهم على العمل في هذه المشاريع المتطورة، والإسراع في ضلوع الهيئة السعودية للدواء والغذاء بواجباتها ومهامها لإنشاء قاعدة معلومات تتضمن جميع المعلومات المتعلقة باتفاقية التربس وأحكامها والاستفادة من مرونة الاتفاقية في إعطاء كل دولة الحق في أن تختار لنفسها النظام الذي يلائمها، ودعم الدولة للبحث العلمي والتنسيق مع القطاع الخاص للاستثمار في البحوث والتطوير في العلوم الطبية والصيدلانية والتركيز على البحوث التطبيقية والميدانية بحيث تتناغم مع احتياجات المجتمع. ومن ناحيته، أكد الأستاذ علي الخميس منسق قطاع الإدارة الصحية في معهد الإدارة العامة أن انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية بقدر ما يحمل في طياته آفاقا واسعة للنمو والتطور والتقدم، بقدر ما سيشرع الأبواب أمام المنافسة الشديدة بين الخدمات الصحية المستوردة والخدمات الصحية التي يقدمها القطاع الوطني الخاص خصوصا في ظل التوجه نحو تطبيق نظام الضمان الصحي. وذكر بأن احتدام المنافسة بين الخدمات الصحية الأجنبية ذات الجودة العالية والأسعار المتدنية والخدمات الصحية التي يقدمها القطاع الوطني الخاص وهي خدمات (مقارنة بتلك الخدمات) ذات جودة متواضعة وأسعار مرتفعة سيحسم ضمناً لصالح الجودة العالية ولصالح القدرة الشرائية باختيار الأقل سعراً وسيترتب على ذلك حالة كساد لبعض من مقدمي الخدمات الصحية الوطنية في القطاع الأهلي ومن ثم النتيجة الحتمية بالتوقف. وأوصى الخميس بأن يقوم القطاع الصحي الأهلي، من خلال الغرف التجارية بالعمل على تشكيل فرق من الخبراء والمختصين لإجراء الدراسات حول الانعكاسات المتوقعة من انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية على القطاع الصحي الخاص وطريقة التعامل معها بمرونة وكفاءة، وأشار إلى أن تتناول هذه الدراسات إعداد السياسات والاستراتيجيات وخطط العمل ورصد ما يترتب من آثار سلبية لاتفاقية التجارة العالمية على سوق الخدمات الصحية المحلي، وتتناول أيضا إعادة هيكلة القطاع الصحي الخاص ومن ضمنه القطاع الصيدلاني بشكل يكون فيه فعالا وقادرا على مواجهة التحديات والمنافسة الأجنبية المتوقعة في الأسواق المحلية والعالمية، وتشجيع القطاع الخاص على توظيف الكفاءات الفنية العالية و الإداريين الأكفاء والمتخصصين في المجال الصحي، وتصميم برامج التدريب وتنفيذها، بالتنسيق المستمر بين مجلس الغرف والغرف التجارية الصناعية والجامعات وجهات التدريب المركزية وغيرها من الجهات ذات العلاقة لتنمية مهارات العمالة الوطنية في القطاع الصحي الخاص، ودعم مراكز ومعاهد التدريب الخاصة وتوفير الدعم الضروري واللازم لإدخال التكنولوجيا المتقدمة والأساليب الإدارية والتسويقية النشطة والفعالة في تقديم الخدمات الصحية، والعمل على تبني نظم وسياسات موحدة ومطوّرة تساعد في تحسين الأداء وتسرع من الإجراءات الخاصة بتقديم الخدمات الصحية، والتوسع في الاستثمار في المؤسسات الصحية والمراكز العلاجية التي تتمتع بمزايا نسبية تؤهلها للمنافسة المتكافئة في الأسواق الداخلية والخارجية و اختزال المؤسسات الأهلية التي تقدم الخدمات الصحية بتحويلها إلى شركات مساهمة عامة كضرورة حتمية لاستمرارها أو دمجها مع مؤسسات صحية كبرى كي تستطيع أن تحصل على نصيب اكبر لها في السوق المحلية والدولية التنافسية والاستخدام الأمثل للموارد المتاحة من خلال تبادل الخبرات في التخصصات الدقيقة والنادرة بين مؤسسات القطاع الصحي الأهلي وكذلك الاستخدام المتبادل قي الأجهزة والمعدات الطبية ذات الكلفة العالية لتعظيم الاستفادة من كامل طاقاتها الإنتاجية وأعمارها الافتراضية.