نظرة أدبية لواقع المهاجرين في فرنسا مع اندلاع أعمال العنف في فرنسا، وازدياد سخونة الضواحي الساخنة أصلاً، وفي موازاة التقارير السياسية، وجدنا من الضرورة بمكان الالتفات إلى موضوع الهجرة والمهاجرين المتحدرين من أصول عربية وإفريقية، من زاوية بعض الكتاب وعلماء الاجتماع وعلماء النفس، من العرب المقيمين في فرنسا، ومن بينهم محمد أركون، مالك شبل، الطاهر بن جلون، وفتحي بن سلامة. ولهؤلاء العديد من الدراسات والكتب التي تناولت الحضور العربي في فرنسا، أشكاله الثقافية، آلامه وآماله. نلتفت في هذه الوقفة إلى أبحاث الروائي المغربي الطاهر بن جلون حول موضوع المهاجرين، وله في هذا المجال الكثير من المقالات والكتب، أبرزها «أعلى درجات العزلة»، و«الضيافة الفرنسية». وإذا كان بن جلون، في كتابه «أعلى درجات العزلة» الذي كان في الأصل أطروحته الجامعية، قد تطرّق إلى مسألة البؤس الجنسي عند المهاجرين العرب العمّال في فرنسا، فإنّ كتابه الثاني «الضيافة الفرنسية» الذي أعادت نشره دار «سوي»، ينطلق من بعض الأسئلة الأساسية التي تتكشّف أبعادها الآن، مع الأحداث الجارية. من تلك الأسئلة «هل صحيح أن العمال المهاجرين هم أحد أسباب الركود الاقتصادي، كما يروّج لذلك اليمين الفرنسي المتطرّف، أم أنهم كبش المحرقة؟ كيف يمكن التوصل إلى إلغاء الحواجز بين مختلف التجمعات الثقافية، كخطوة أولى على طريق الاندماج؟ كيف الخروج من منطق «الغيتو» إلى منطق المجتمع؟ هذه الأسئلة وغيرها الكثير طرحها بن جلون للمرة الأولى منذ عقدين من الزمن، وكم تبدو الآن أسئلة راهنة، بل كم تزداد حدّة طرحها مع الأحداث الأخيرة. يعتبر بن جلون أن الحوار حول مسألة الهجرة والمهاجرين لا يمكن أن يكون إلاّ عبر مدخل واحد هو موضوع الاستعمار، ففي رأيه أن فرنسا لا تعيش مشكلة كبرى مع مسألة الهجرة في المطلق، بل أن مشكلتها الأساسية تكمن في ماضيها الاستعماري بصورة عامة، وفي الماضي الجزائري بالأخصّ، وما جرى أيضاً في الجزائر مطلع التسعينات لا يمكن فصله عن مرحلة الاستعمار. يرى بن جلون كذلك أنّ ثمة ذاكرة لا تزال حية بين فرنساوالجزائر، لكنها ليست ذاكرة سليمة. إنها جزء مدمّى من تاريخ مشترَك لم يعرف كيف يتعامل مع الواقع ويقبل به. ذلك أن الحرب لم تُقرَأ كما ينبغي، من قِبل الطرفين، ولم تُقرأ أيضاً المئة وثلاثون سنة التي سبقت الحرب، أو أنها قرئت بصورة مجتزأة وغير كافية لفتح صفحة جديدة. أما بالنسبة إلى الهجرة التي بدأت منذ أكثر من مئة عام، فقد تغيّرت كثيراً وأصبحت مع الوقت شيئاً آخر. إنّ ثلثَي الذين نسميهم اليوم مهاجرين هم من الفرنسيين الذين وُلدوا في فرنسا. ألا يكفي ذلك لإكساب فرنسيّتهم الشرعية الكاملة، أم أنّها فرنسية ناقصة، مشكوك في أمرها؟ الذكرى العشرون لتأسيس متحف بيكاسو في باريس تحتفل باريس حالياً بالذكرى العشرين لتأسيس متحف بيكاسو من خلال معرضين كبيرين يقامان في المتحف، ومن خلال نشر الكثير من الإصدارات المتعلّقة بنبوغ هذا الفنان وبمسيرته الفنية التي طبعت الفنّ في القرن العشرين. لقد افتتح متحف بيكاسو في العاصمة الفرنسية عام 1985 ويحتوي على مجموعات نادرة للفنان، وهي من ممتلكات الدولة الفرنسية، ويأتي للتعرّف إليها سنوياً مئات الآلاف من الزوار. يحتوي المتحف على أكثر من ثلاثمئة لوحة، ومئة وستين منحوتة، وألف وخمسمئة رسم، هذا بالإضافة إلى أعمال السيراميك والمخططات الورقيّة ودفاتر الرسم والمحفورات والمحفوظات، وهذه المواد كلها لا تساعد فقط على اكتشاف بيكاسو الفنان وإنما أيضاً على الاقتراب من بيكاسو الإنسان، ممّا يجعل من هذا المتحف أحد أندر وأجمل المتاحف في العالم لما له من خصوصية ولما فيه من مفاجآت باهرة هي بمثابة عيد للعين. تضاف إلى هذه الأعمال الدائمة الحضور معارض سنوية موقتة تركز في كلّ مرة على ملمح من ملامح الفنان. وكما ذكرنا، يضم المتحف اليوم، بمناسبة الذكرى العشرين لافتتاحه، معرضين الأول يحتوي على مجموع الأعمال التي مهّدت لولادة لوحته الشهيرة «آنسات أفينيون»، وكان لهذه الأعمال أن عرضت في المكان نفسه منذ نحو العقد من الزمن، والمعرض الثاني وعنوانه «ولع الرسم» وهو مخصص للكشف عن طاقة الفنان الإبداعية في ما يخصّ الرسم، وبهذا الصدد يقول أحد أمناء المتحف إن الكمية المعروضة من الرسوم لا تشكل سوى ربع الكمية الموجودة. غير أن الرسوم الثلاثمئة وخمسين التي تمّ اختيارها لهذا المعرض فهي من بين أجمل رسومه وأكثرها تعبيراً عن هذا اللون الفني لديه. المجيء إلى متحف بيكاسو لا يحتاج إلى مناسبة خاصّة ولا إلى ذكرى محددة، بل هو يشبه العودة إلى المنزل بعد غياب. ويشعر حياله متذوّق أعمال الفنان بشيء من الانتماء. فإضافة إلى موقعه في الوسط التاريخي والذي نصل إليه عبر شوارع لولبية ضيقة تعيدنا قروناً إلى الوراء، هناك أيضاً الصرح الحجري الذي يرقى إلى القرن التاسع عشر وينطوي على كنوزه كالماسة السوداء على نورها الخارق. من بين هذه الكنوز بعض الصور الذاتية لبيكاسو، ومعروف أنه مقلّ فيها، بالمقارنة مع غيره من مجايليه. وبين الرسم الأول الذي أنجزه وكان لا يزال في سنواته الأولى كفنان، ورسمه الأخير الذي يحمل تاريخ 1972، أي قبل عام واحد من وفاته، رسوم عدّة، إلاّ أنّ أكثر ما يستوقفنا هو رسمه الأخير ويبدو فيه وهو ينظر إلينا، بل يبدو أنه ينظر، نظرته المتجلية تلك، إلى الموت. إنها نظرة الذي رأى ونقل بقوة حركته وعنفها هَول ما رأى، وبالصورة الأكثر انبهاراً والأكثر خطراً. ماذا يقول الروائي الإسباني خوان غويتسولو عن فرنكو؟ بعد ثلاثين عاماً على وفاة الجنرال فرنكو، يعود الروائي الإسباني الشهير خوان غويتسولو، المقيم في المغرب، والمعروف بمواقفه المؤيدة للقضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، يعود إلى المرحلة الفرنكيّة التي عانى منها الشعب الإسباني طويلاً، وإلى التغيّرات التي حصلت في إسبانيا. ومن المعروف أنّ كتب غويتسولو كانت ممنوعة من التداول في إسبانيا منذ العام 1963 حتى وفاة الجنرال. وفي حديث نشرته أمس صحيفة «لوموند» الفرنسية، تذكّر الكاتب الإسباني كيف استقبل خبر وفاة الديكتاتور، فقال إنه كان في نيويورك يوم تدهورت صحة فرنكو، فما كان منه إلاّ أن اجتمع وبعض الأصدقاء الإسبان والأميركيين في جامعة نيويورك، وأعدّوا احتفالاً فورياً. لكن فرنكو عاند الموت، وبعد عشرة أيام، استأصل الأطباء أمعاءه. يقول غويتسولو في هذا المجال: «اجتمعنا واحتفلنا باختفاء أمعاء فرنكو»! يشير الكاتب أيضاً إلى التواطؤ الذي كان قائماً بين الزعيم الإسباني وإيزنهاور، وهذا التواطؤ، بحسب رأيه، «كان دعماً أكيداً للديكتاتورية طوال حياتها». من ناحية ثانية، يلاحظ غويتسولو أنّ التغيّرات التي عاشها المجتمع الإسباني بدأت قبل وفاة فرنكو. المجتمع كان يتغيّر طوال الستينات من القرن الماضي، «غير أنّ الديكتاتورية لم تسقط من خلال ثورة أو بفعل المعارضة، وإنما سقطت لأنها كانت متخلّفة وقديمة». أما عن نظرته إلى الواقع الإسباني الراهن، فيقول الروائي خوان غويتسولو إنّ الشعارات الوطنية الخطيرة عادت إلى الظهور مع خوسيه ماريا أزنار، لكنه لا يخفي إعجابه بعودة الاشتراكية، ويعترف بأنه يجد، وللمرة الأولى منذ الجمهورية الثانية، أنّ خوسيه لويس ساباتيرو يجسّد بالفعل رجل دولة، ويسعى إلى الدفاع عن أفكاره واحترام الوعود. كتاب حول تجربة الروائية آسيا جبّار «آسيا جبّار بدويّة بين الجدران» عنوان كتاب جديد صدر أخيراً عن «الأكاديمية الملكية في بلجيكا»، بالاشتراك مع دار «ميزونوف لاروز»، ويتضمن مجموعة أبحاث شارك فيها عدد من الكتّاب والجامعيين والمترجمين والسينمائيين من قرابة العشر دول. وقد أشرف على الكتاب الكاتبة وأستاذة الأدب الفرنسي في جامعة باريس الثامنة ميراي كال - غروبر التي سبق لها أن نشرت كتاباً بعنوان «آسيا جبار والكتابة بوصفها فعل مقاومة». من المشاركين في الكتاب ألبير ميمي، أندريه شديد، جاكلين ريسيه وعبد الكبير الخطيبي... وتتمحور الدراسات والشهادات حول نتاج آسيا جبار في الأدب والسينما، في البداوة والفانتازيا، وحول ما يسائل فكرها وحركاتها، أي ما يؤلّف هندساتها السرية. الكاتب والناشر أوبير نيسان يحاول في كلمته التمهيدية أن يرسم بعض ملامح الكاتبة الجزائرية من خلال ذكريات لقاءات وقراءات. يتذكر لقاء بينه وبين الكاتب ماكس بول فوشيه الذي نصحه بأن يقرأ كتاب آسيا جبار «القبّرة الساذجة»، وقد أرفق نصيحته بالسؤال التالي: «هل من غير المعقول أن نفكّر في أنّ النساء سينقذنَ العالم؟». ويضيف أوبير نيسان موجّهاً حديثه إلى آسيا جبار: «عندما أعاين حياتكِ ونتاجك، سيّدتي، لا يعود السؤال المطروح سؤالاً غير عقلانيّ على الإطلاق...» وفي حين تتناول الكاتبة جاكلين ريسيه علاقة جبار مع اللغة، بل حبّ جبار للغة (مسألة اللغة من المسائل الأساسية في نتاج الكاتبة الجزائرية، وتحضر حتى في عناوين كتبها: «وهران، اللغة الميتة»، «الأصوات التي تحاصرني»، «اختفاء اللغة الفرنسية»...)، يلتفت الكاتب إرنستبيتر روها إلى العلاقة بين اللغة والهوية، وإلى التاريخ المأسوي الجزائري الحاضر في أفق النتاج الأدبي ككلّ. الكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي يتوقف عند رواية «الحبّ، الفانتازيا» التي تختزل، بالنسبة إليه، جانباً مهماً من نتاج الكاتبة الجزائرية. ويرصد الخطيبي من خلال هذا الكتاب المفردات/ المفاتيح التي استعملتها الكاتبة وتتمحور في معظمها حول السفر والتيه والحلم، ثم يلتفت إلى تفاصيل الحكاية وتداخل أصوات الرواة فيها وما يرشح منها من ماضي الوطن إلى واقع الذات على خلفية من ليل الاستعمار الطويل. يتطرق الخطيبي هو أيضاً إلى العلاقة مع اللغة من خلال الحديث عن الكتابة والجسد، ومن خلال ما يسميه «ولادة الكاتبة في لغة أخرى غير لغتها الأصلية»، ليخلص إلى القول إنّ الصراع الذي تعيشه الكاتبة عبر إحساسها بمأساة الاستعمار وانعكاسها على الأنساق النفسية والاجتماعية، وعبر معنى التاريخ وقساوته وإذلاله، لا يخفّف منه، على المستوى الشخصي على الأقلّ، إلاّ هذا الانحياز إلى القصيدة التي تصبح هنا أثرَ الغائب. ألا تقترب الكاتبة في روايتها من الشعر حين تقول: «خارج آبار قرون الأمس، كيف نواجه أصوات الماضي؟ أيّ حبّ يبحث عن نفسه، أيّ مستقبل يرتسم في الأفق على الرغم من نداء الموتى؟». الكاتب فولفانغ أشولت يتناول المدن التي وردت في روايات آسيا جبار، تلك المدن التي لها تاريخ وذاكرة، المدن التي تموت والتي تحيا كلّ يوم. ويعتبرها الكاتب، بعد دخولها مطهر العمل الروائي للكاتبة، أنها أصبحت مدناً تتجاوز حدودها المرسومة سلفاً. وتتجاوز أقدارها لتصبح مدن كل زمان ومكان. من جهتها، تلتفت الكاتبة جان ماري كلير إلى تجربة الصحراء في نتاج جبار، ومنها إلى تلك الكتابة التي تعانق السفر وتبدو هاربة كالغيوم. ختام الكتاب هذه العبارة لآسيا جبار والتي تقول: «أكتب ضدّ الموت، أكتب ضدّ النسيان... أكتب على أمل أن أترك أثراً ما، ظلاً، نقشاً في الرمل المتحرّك، في الرماد الذي يطير وفي الصحراء التي تصعد...»