يُساء إلى المعرفة وتُشوَّه - أو ربما تُطمس معالمها - إن هي عُلّقت ب (أيديولوجيا) ما من أي نوع. ولا مفر حينئذ من أن يغدو الحديث عن المعرفة وإن بدا في ظاهره علمياً معرفياً منطوياً في العمق على خطاب انشائي وعظي لا محالة. وحين تشتد الحماسة لفكرة ما تحت ضغط الايديولوجيا فحسب يفضي ذلك في الغالب إلى التحول من الحديث في صميم الفكرة إلى حديث حولها أو بعيداً عنها. ولا بد في غمرة الحماسة من طي الحقائق الموضوعية العلمية المتعلقة بالمفهوم وتجاوزها إلى انحيازات وادعاءات هلامية لا تقف على أساس، أو إلى مزج المفاهيم المعرفية بالشعارات. ويصبح ما يبدو في الظاهر أنه كتابة علمية هو في العمق أبعد ما يكون عن العلم وأقرب شيء إلى خطبة في محفل شعبي عام. ولكي نخرج من العموميات إلى أمثلة واقعية تدعم ما ورد في هذه المقدمة سنعرض هنا كتاباً بعنوان اللغة في عصر العولمة للدكتور أحمد الضبيب (صادر عن مكتبة العبيكان 1422ه ) بوصفه نموذجاً واحداً فقط من كثير مما يكتب تحت ضغط الغيرة على «العربية» والخوف عليها من اللغات الاخرى. واللغة العربية هنا تصبح صالحة لأن تكون فكرة واحدة ممثلة لأفكار اخرى كثيراً ما يكتب عنها بالطريقة نفسها في أكثر من مقام، وبالقدر نفسه من «الخوف» عليها من أفكار اخرى مزاحمة لها. يتألف الكتاب من أوراق عمل «علمية» ألقيت في عدد من الملتقيات والندوات، يجمعها جامع الدعوة إلى درء المخاطر عن العربية، والتنبيه على ما يحاك لها من دسائس ومؤامرات في الخارج والداخل، ومحاولة اقتراح «وصفات» تحصينها والمحافظة عليها ومقاومة اللغات الاخرى المنافسة ولا سيما الانجليزية. غير أن اللافت للنظر في الاوراق كافة أن كاتبها لا يفتأ يلح على أن ما يكتبه علمي وليس انشائياً، اما بالتصريح بذلك: «ونحن هنا لا نلقي الكلام على عواهنه» أو: «عندما يوضع على محك البحث العلمي» (ص 15)، أو: «وهي مقولة تحتاج إلى مزيد نظر وفحص دقيق» (ص 114)، أو: «فما يزال البحث العلمي في البلاد العربية هامشياً.. ومن المعروف أن البلاد التي تنشد التقدم يمثل البحث العلمي فيها الجسر الرصين الذي يؤدي إلى العبور الحضاري» (ص 121).. الخ، واما بترديد القول بضرورة الابتعاد عن الانشائية والشعارات (ص 8، 28 مثلاً)، واما بالاقتباس والاحالة على مراجع، وهو ما يوهم القارئ بأنه يقرأ في الكتاب بحوثاً علمية صارمة جادة. وهذا الالحاح من الكاتب ربما دل على «خوفه» هو في العمق من أن يُتلقى كتابه بوصفه تغنياً عاطفياً باللغة لا مجال فيه للحياد والموضوعية بالضرورة. ولنقل بعبارة أكثر صراحة: هي محاولة إلباس ما هو عاطفي محض ثوب العلمية والمنهجية. وعلى هذه الملحوظة دليل واضح من عبارة المؤلف نفسه؛ إذ يلمز بعض الباحثين من قبل التزامهم الحياد في تناول قضايا العربية، وانتقادهم من يسلك المسلك التبجيلي المدائحي في الدفاع عن اللغة، بقوله: «أصبح هذا المسلك الدفاعي التبجيلي منتقداً لدى كثير من الدارسين الذين يتقمصون لباس الحياد عند الكتابة عن لغتهم». (ص 88). أما هو فلا يرى في أقصى صور التحيز شدة أدنى تعارض مع علمية الاوراق ومنهجيتها؛ إذ يزف البشرى في ختام احدى اوراقه إلى مستمعيه بالصورة الآتية: «وقبل أن أختم هذا الحديث أود أن أزف اليكم خبراً سمعته من أحد الزملاء المشتغلين بدراسات الحاسب الآلي والمعلوماتية مفاده: أن دراسات أجريت في اليابان على اللغات العالمية تستهدف معرفة أكثر اللغات وضوحاً صوتياً في استخدامات الحاسب الآلي أثبتت أن اللغة العربية تتصدر هذه اللغات في هذه الناحية، بينما تأتي اللغة الصينية في آخر القائمة، مما يؤكد تميز اللغة العربية من ناحية الوضوح الصوتي. وهكذا هي اللغة العربية دائماً هي لغة الإبانة، كما قال تعالى {بلسان عربي مبين} بينما تكون اللغات الاخرى كلها لغات رطانة». (ص 30). كما ردد في مواضع اخرى القول بأن اللغات الاخرى كلها عجمة ورطانة. (ينظر ص 85). ولأن الكاتب يتصور أن اللغات الاخرى عدا العربية كلها رطانة، ويعتقد أن ذلك هو الحق الذي لا جدال فيه، لم يتردد في الجزم بتفوق العربية المطلق وسموها في كل قضية عرضها في الكتاب. ولم يراود هذا الكاتب مايراود الباحثين عادة في أثناء مناقشة الأفكار والمفاهيم اللغوية من تريث أو امتناع عن القطع بوجهة ما. فهو في اللغة وقضاياها كما يبدو كاتب وثوقي كامل الوثوقية. ولا عجب في هذا الأمر عنده إذا عرفنا أن السبب في ذلك أنه يرفع اللغة إلى مرتبة الايديولوجيا في كل شأن من شؤونها. حين تختلط شؤون ومفاهيم لغوية متعددة ومتباينة، كمفهوم اللغة من حيث هي ظاهرة إنسانية فتشترك العربية مع غيرها بالضرورة في خصائص، ومفهوم اللغة من حيث هي وسيلة اتصال وتبادل منافع ، ومفهوم اللغة من حيث هي لغة الدين، ومفهوم اللغة من حيث هي عامل من عوامل الهوية الوطنية أو القومية.. الخ حين يختلط كل ذلك فتوضع المفاهيم في سلة واحدة، أو حين تختزل جميعاً في مفهوم واحد لا غير، حينئذ يحصل الارتباك والفوضى في التناول. ويغدو عرض القضايا اللغوية أشبه بمزيج غير متجانس، إن لم نقل هو تخبط عشوائي في كل ناحية وكلام مجاني أبعد ما يكون عن العلم. لا غرابة إذاً في أن تخون كاتبنا قدراته العلمية حين يتصدى لبحث قضية علمية لا مجال فيها للعواطف والخطب الرنانة، هي قضية المصطلح العلمي؛ إذ إن سلاحه الوحيد الذي يواجه به أصعب القضايا العلمية هو التعصب والحماسة للعربية والاعتقاد بأنها وحدها القادرة تلقائياً على المواجهة فحسب. وذلك كاف عنده في انهاء جميع الاشكالات بكل يسر وسهولة. وأفضى ذلك بالكاتب بكل أسف إلى أن يضع العربة قبل الحصان. ذلك انه قرر بكامل وثوقيته المعهودة عنه على طول الكتاب «وصفة» للتغلب على معضلة المصطلح العلمي تتكون من ثلاث نقاط، اثنتان منها تتلخصان في: «بث الوعي اللغوي بين أبناء الأمة وايقاظ غيرتهم على اللغة» (ص 122). و:«تيسير المادة اللغوية العربية وجعلها على طرف الثمام.. الخ» (ص 124)، أما أهم النقاط بنود الوصفة فهو: «تكوين مؤسسات متخصصة للترجمة تشبه ما لدى الأمم الاخرى التي تنشد النهوض يستتبع تكوين أجيال من العلماء مزدوجي اللغة تمكنوا من ناصية العلم ومن اللغة الاجنبية، وأتقنوا لغتهم العربية اتقاناً يمكنهم من معرفة خصائصها وقدراتها، والاحساس الكامل بدقائق معانيها؛ حتى يتمكنوا من الغوص في أعماقها، واستخلاص المصطلحات منها وصياغتها صياغة عربية أصيلة مشرقة». (ص 123). ومع أني لا أفهم كيف يمكن الغوص في أعماق اللغة العربية واستخراج مصطلحات علمية لمبتكرات حديثة، ثم صياغتها صياغة عربية أصيلة مشرقة، يكفي أن نقول إن تسامحنا في قبول العبارة: إن الكاتب لا يرى المشكلة تتعدى الغوص في أعماق اللغة واستخراج ما نريد. ونسي - أو ربما لم يخطر بباله - أن اللغة تلحق الناس لا العكس، بمعنى: أنه لا يمكن لاية لغة في الدنيا أن تسمي ما لم يصنعه أصحابها أو يعرفوه، ولو غاص الناس كلهم أجمعون في بطنها ما وجدوا فيه إلا ما عرفه العرب. ولأن الكاتب لا يعترف بهذه المسألة، ويظن أن مجرد الغوص هو الحل، وقف بكل عنفوان ضد تعريب المصطلح، ومع تعريب دراسة العلوم. يجزم الكاتب بدرجة عالية من الثقة في مواضع عدة بنجاح تجربة تعريب دراسة العلوم في بعض البلدان العربية، كما يجزم بفشل تجربة دراسة العلوم باللغات الأجنبية في البلدان الاخرى. والدليل القاطع عنده على هذا الفشل هو: «الاخفاق الذريع في نقل العلوم والتقنية إلى الوطن العربي». (ص 45). والسبب هو سياسة الرافضين للتعريب الجامعي من الأساتذة والمخططين للتعليم العالي في البلاد العربية، تلك السياسة «التعليمية الفاشلة التي دامت أكثر من ثمانين عاماً قضوها كلها في تدريس الطب والعلوم باللغة الأجنبية». (ص 45). (وانظر أيضاً ص 208). وحين يعرض الكاتب وجهة نظره في قضية تعريب المصطلح، في مقابل الآراء العلمية التي تنظر من زوايا متعددة ومختلفة إلى صعوبات ايجاد المقابل العربي لكل مصطلح أجنبي، يصف تلك الآراء ب «الشُبَه». وهو وصف لا يقال في العادة إلا بحق الاعتراضات أو الطعون على الأمور المقدسة التي لا تقبل الاعتراض أو الطعن؛ لأن من يتصدى لإبطالها لا يود أن يسبغ عليها العلمية بحال من الأحوال فيصفها بالشبه المبنية على غير أساس والقابلة للنقض بالضرورة، والأمثلة على ذلك واضحة في الكتب التي تتصدى للدفاع عن الدين وأمور الشرع الثابتة. أما قضية المصطلح فلا أظنها تتحمل تقديس اللغة في جوانبها التي لا قداسة فيها، ولا الرفض المسبق لوجهات النظر فيها. والأعجب من رفض الآراء المسبق هو عدم فهم سياقات كثير من تلك الآراء، وعدم معرفة جوهر القضية المعروضة. وسأكتفي هنا لمجرد التمثيل برده على ما سماه «شبهة أن العربية لغة بداوة» (ص 108). إذ كان رده على ذلك: «أن القول ببدائية اللغة لم يعد مأخوذاً به لدى علماء اللغويات في العصر الحاضر. فكما سقطت نظرية ربط اللغة بالعرق عند أرنست رينان وماكس مولر وغيرهم سقطت أيضاً نظرية اللغة البدائية». (ص 108). وانتفاء اللغة البدائية هذا لا يصلح بحال من الأحوال للرد على شبهته تلك أو ابطالها. إذ بدهي أن المقصود بهذا الانتفاء هنا أن أية لغة ستكون قادرة على التعبير عما يعرفه أهلها أو يتعرفونه، وما يجد في حياتهم مما صنعوه أو اكتشفوه فسموه. أما ما يعرفه الآخرون أو يكتشفونه فيسمونه فلا يسع غيرهم إلا اتباعهم في تسميته. وهذا هو نفسه مبدأ العربة والحصان الذي لم يتنبه له المؤلف كما سلف. أما على المستوى التداولي فإن الكاتب يعلن إيمانه المطلق بمبدأ القمع وفرض اللغة على أهلها بالقوة الجبرية. ولا يتردد لإنفاذ أيديولوجيته هذه في استعداء السلطة الرسمية على المخالفين، مستعملاً أكثر العبارات دوياً وإثارة. يقول: «ويبدو التحدي سافراً للغة العربية في المجتمع.. عندما تجاهر كثير من المحلات التجارية والمؤسسات الخاصة والشركات العاملة في المملكة والوطن العربي بكتابة لافتاتها بالاجنبية وتسطير تقاريرها وصياغة عقودها واصدار تعليماتها إلى العاملين فيها وإن كانوا عرباً باللغة الاجنبية، الأمر الذي يمس الوضع السيادي للغة العربية بوصفها اللغة الرسمية للمملكة وجميع دول الوطن العربي حسب ما ينص عليه النظام الأساسي للحكم في المملكة والدساتير السائدة في سائر البلاد العربية. وفي هذه الحالة يرقى الفعل إلى درجة الاستهتار بهيبة الدولة والانتقاص من كرامة البلاد.. والواقع أن قرارات دولتنا السعودية كانت دائماً مع نصرة اللغة العربية.. لكن المشكلة تكمن في تنفيذ هذه التعليمات ومتابعتها من قبل الجهات المختصة». (ص 19، 20). وفي موضع آخر يشير إلى عدد من القرارات الرسمية بالرقم والتاريخ، ويتساءل: «فلماذا لا يلتزم سوق العمل بهذه القرارات؟ ما المسوغ لكتابة العقود بين المؤسسات والشركات من جهة وبين المواطنين من جهة اخرى باللغة الانجليزية؟.. ولماذا لا يستشعر الأجنبي أي حرج في ذلك؟ بل لماذا هانت علينا أنفسنا وكرامة بلادنا فقبلنا ذلك وتقبلناه؟». (ص 58). وفي موضع آخر يقول: «ومن المفارقات أن جميع دساتير البلدان العربية تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية. لكنها لا تضع لهذه المادة من الأنظمة والعقوبات ما يكفل احترامها أو عدم مخالفتها». (ص 190). وفي موضع آخر أيضاً ينادي بتدخل السلطات بإصدار القرارات الرسمية الصارمة. ولن يجدي نفعاً في نفي القمعية والدكتاتورية عنه فيما أعتقد قوله بعقب ذلك مباشرة: «ونحن هنا لا ندعو إلى دكتاتورية لغوية تهيمن على الناس». (ص 162). الكتاب في عمومه نموذج واضح لتعليق المفاهيم المعرفية بالأيديولوجيا. وهو ليس بأكثر من خطبة حماسية تبجيلية للعربية، يختلط فيها ما هو علمي بما هو عاطفي. فلا غرابة إذاً أن يكون معجمه معجماً خطابياً فحسب. إذ لا تكاد صفحة منه تخلو من ألفاظ: (الهوية العربية، التحديات الكبرى، الكرامة، وحدة الأمة، الغزو الثقافي، مؤامرات الأعداء، الاستعمار، وكلاء الاستعمار، الأجنبي، استهداف الأمة في حضارتها، مخططات الغزاة، الهزيمة النفسية، الدفاع عن مقومات الأمة.. إلخ). وهو ما لا يستنكر في مثل هذا المقام.