يعمل المفكر، والأديب، والمصلح الاجتماعي، والصحافي، ومن يتعاطى الشأن العام طيلة عمره على ممارسة فعل التنوير، وصياغة وعي الأجيال، وتشكيل المفاهيم، وزيادة الوعي الحضاري والإنساني والوطني عند الإنسان، ويبذل في ذلك المسار جهوداً جبارة وهائلة لإيمانه برسالة الكلمة والحرف والفعل في تنمية حضارة الشعوب، وتكاملها، وتنميط أهدافها ومساراتها، لتكون فاعلة ومؤثرة ومنتجة تتماهى مع الحضارات الأخرى وتتكامل معها. نحتفي بهذا الفعل، وصاحب الفعل، ونقبل على نتاجه كمخزون فكر وتجارب ورؤى، ونأخذه محتفلين ومبهورين وفرحين بالمقدرة الرائعة على الخلق والإبداع في التفكير والتوجه. ثم يرحل صاحب هذه الأعمال العظيمة، والممارسات الواثقة، فلا نعد نذكره، ولا نشير إليه، وننساه لأن ذاكرتنا - وهذا مؤسف - مثقوبة جاحدة، لا تحفظ لأصحاب الجهود جهودهم، ولا تبقي لهم مساحة زمنية في ذاكرتنا الفردية أو الجماعية تجعل الاحتفاء والاحتفال حالة مستمرة تنصفهم، وتحفز من يأتي بعدهم. في لبنان، وهو وطن مسكون بالتناقضات، متسربل بالطائفية، ينخر في جسمه سوس الانتهازية والنفعية والوصولية، ويعمل كل واحد والسياسيون مثلاً، على إلغاء الآخر دون مسوغ ومبرر، وتهميشه كي لا نقول تهشيمه لمجرد أن مصالحه تتعارض معه، في لبنان حضرنا قبل أيام تكريماً لصحافي بسيط جداً، ليس له حضور فاعل في صناعة الصحافة في لبنان، ولا يكاد يعرف في الوسط الثقافي والإعلامي بشكل واسع. ومنحته رئاسة الجمهورية وساماً بحضور ممثل عن رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب، ورئاسة الحكومة، وفعاليات سياسية وفكرية وإعلامية. - لماذا هذا التكريم..؟؟ - لأن الرجل أمضى خمسين سنة محرراً صحافياً في أكثر من مطبوعة!؟ وأسجل أنه لا يكاد يمضي أسبوع في لبنان دون أن يكرّم صحافي، أو فنان، أو مفكر، أو كاتب، ويمنح وساماً رفيعاً تقديراً لعطاءاته، وتنويهاً بخدماته لوطنه. فعل جميل، جميل جداً، وممارسة تقدير حضارية تدفع إلى الإخلاص في الإنتاج والعمل والتميز، وتعطي الفرح لجهد مبذول من أجل الوطن، والناس، والمجتمع. لماذا هذا التوقف - الآن -؟؟ وماذا عن الوطن، ومؤسسات في تكريم المبدعين العاملين من أبنائه..؟؟ لا أريد أن أتناول هذا، فالحقيقة معروفة..؟! غير أن أوراقاً عندي للرائع الجميل عبدالمعين الملوحي تحرضني على الرؤية بفعل أن يكرم الإنسان نفسه فيرثيها كما فعل الملوحي، ويمنحها حقها.. قرأت للملوحي يرثي نفسه.. «تمنيت يا بن الريب لو بت ليلة بجنب الغضا تزجي القلاص النواجيا وأمنيتي لوبت في حمص ليلة فأسبح في العاصي وألقى لداتيا كلانا تهاوى حلمه، لم تر الغضا ولا أنا في الميماس أُلقي رحاليا أمان أضلتنا طويلاً وأتلعت وكانت أضاليل الرجال الأمانيا قبل أن استأذن، أسأل: متى نرى شارعاً، أو ميداناً باسم من كان لهم إسهامات في الثقافة والفكر والصحافة في بلادنا.