ربما كان من بين أبرز المعوقات التي تحول دون الوصول إلى تحديد موضوعي وعلمي للأسباب الحقيقية التي تفسر نشوء وتنامي الظواهر الفكرية السلبية ونتائجها التطبيقية، عدم اطراد قراءة جميع صورها قراءة تقييمية وتقويمية تامة وكاملة تتيح ضم النظير الى نظيره وإلحاق الشبيه بمشابهه، وصولاً إلى تكوين رؤية واضحة وعميقة عن ماهية الدوافع والأبعاد المؤثرة في ذلك، ومن ثم انتخاب أكثر المناهج الفاعلة لمعالجة أخطاء تلك الظواهر ومواجهة آثارها، وإنما يجري - في الغالب - الاكتفاء بقراءة جزء من تلك الصور لتشكيل رأي معين يتحول مع مرور الزمن إلى نسق نمطي وذهني. حادثة الاعتداء على القنصلية الأمريكية في جدة، ربما نُظر إليها نحواً من هذه الرؤية؛ نظراً لكونها منتمية إلى سياق حوادث مماثلة بحيث يمكن الإحالة إلى ما قيل فيها عن الأسباب والأبعاد، ومن ثم فلا يبقى إلا الإدانة للحدث بعينه وبعيداً عن سياقاته. وفي ظني أن هذا المنهج وإن كان مفهوماً من منظور وقتي وشكلي تفرضه الوهلة الأولى؛ فإنه من منظور رؤية جوهرية بعيدة، منهج خاطئ وسلبي أيضاً؛ فالمنهج العلمي الفاعل يفترض قراءة الصورة السلبية مهما بدت منتمية إلى نظائر سابقة، ذات القراءة التي استدعتها مفاجأة الصورة الأولى، بمعنى أن تكون قراءة معمّقة لا تقتصر على رصد حجم أثرها السيئ، وإنما تتجاوزه لقراءة أهم تتصل بما تنبئ عنه من إشارات مهمة تعين على استقراء تلك الدوافع والأسباب، بالنظر إلى أن الحوادث المتماثلة إذا كانت ذات قاسم مشترك في الأثر؛ فإن لها في الأسباب - بلاشك - قاسماً مشتركاً كذلك. في هذا السياق، وتحديداً في سياق البحث عن إجابة شافية عن السؤال الملح عن أسباب العنف المستند إلى خلفية عقدية وفكرية، تتوالى الشواهد الواقعية المتجسدة في الخلفيات التسويغية، في تأكيد أن أحد أهم أسبابه، بل هو سببه الأول المطلق: الجهل بالأحكام الشرعية، وهو السبب الذي تضمنه النص النبوي عندما بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من سيما أصحاب تلك التطبيقات، أنهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم؛ كناية عن عدم فقه معانيه أو عدم العمل به. وإذا كان هذا الجهل عاماً بحيث يشمل ميادين المعرفة الشرعية؛ فإنه يتأكد ويتركّب - أي يصبح جهلاً مركباً - في الأحكام المتعلقة بعلاقة المسلم بالآخر المباين له معتقداً بما يمكن حصره في أحكام الجهاد، وأحكام الولاء والبراء، وأحكام المستأمنين والمعاهدين؛ حيث مازالت النصوص التي تؤصل هذه الأحكام تنزّل بعيداً عن مراداتها المعتبرة، ومازال تكييف الحكم فيها يتم بمعزل عن مناطاته الحقيقية، ولم تزل نماذج تفسيرها تجري بعيداً عن إدراك المحددات الشرعية المشروطة لفقهها فضلاً عن تمثلها، ناهيك عما يتداخل بذلك من الخلط بين المقطوع بدلالاته والمختلف حوله، واليقيني والظني، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، بل والنص والرأي، حتى أضحت بعض الأقوال الاجتهادية - عند هؤلاء - من مصادر الاستدلال الموازية للوحيين! على أن مدار الخطر في ذلك، ليس في أن هذه المنهجية تقود إلى استنباط حكم فقهي يلزم صاحبه، وإنما في كونها تؤسس لمواقف متعدية حسية ومعنوية على مستوى الاعتقاد والسلوك المطرد. هنا لابد أن نستعيد حقيقة مهمة تتمثل في أن أول صور الاستدلال المغلوط بالنص كانت عند أول صور العنف بالاعتداء على المستأمنين والمعاهدين، بالاستدلال بحديث: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»، فإن هذا النص تمت قراءته قراءة اعتسافية من حيث الدلالة، إسقاطية من جهة الواقع، بعيداً عن الوعي بحقيقة منطوقة ومفهومة اللذين يقرران غير ذلك تماماً من خلال أوجه عديدة، فضلاً عن الجهل بشروط مناطات تطبيق دلالته على فرض صحتها! ومن ثم أمسى هذا المنهج بهذا الفهم الخلفية المطردة لحوادث العنف التي تطال الأجانب في بلادنا. وكما كان الجهل بالحكم الشرعي أول أسباب حوادث الاعتداء، فإن السبب نفسه يعاد إنتاجه لتسويغ آخر صورة منها، التي تمثلت في حادثة القنصلية في جدة، بالحجة ذاتها، مقرونة بمحاولة «الإسقاط التاريخي» على الواقع، إذ علّق أحدهم في موقع من مواقع الانترنت على الحادثة بالعنوان التالي: «الله أكبر! إني لأجد رائحة الجنة خلف جدران القنصلية»!! حيث نلاحظ الإسقاط جلياً واضحاً. فهذه الكلمة محاكاة لكلمة أنس بن النضر - رضي الله عنه - التي قالها يوم أحد - كما في الصحيحين وسواهما-: «إني لجد ريح الجنة دون أحد»، ففضلاً عن كونها تدل على عدم فقه صاحبها بالفارق بين الموقفين والذاتين، فإن لها أبعاداً مؤثرة على من آمن بها؛ لأنه لا مؤدى لمثلها إلا تزييف الوعي وتمييع معايير العدل والحق والصدق، بتصوير الخطأ في صورة الصواب، وإلباس الإفساد لبوس الإصلاح، وممارسة العدوان باسم الجهاد! على أن ما هو أبعد من ذلك مما يتعلق بخطر هذه المحاكاة، محاولة إسقاط الصواب المقطوع به على الخطأ المقطوع به من خلال الاتكاء على النص الآنف. ففي حين قال أنس بن النضر - رضي الله عنه - كلمته هذه في سياق من تزكية الفعل الذي هو فيه في معركة أحد، بأنه جهاد في سبيل الله كما قال - تعالى - {وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله}،وفي تعقيب بالتزكية للعامل المجاهد الذي هو أنس بن النضر؛ إذ نزل فيه بعد استشهاده - في قول أكثر المفسرين - قوله - تعالى:- {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}... في حين تستند مقولة أنس - رضي الله عنه - إلى هاتين التزكيتين، تأتي محاولة إسقاطها في سياق حادثة اعتداء محرمة شرعاً وعقلاً وواقعاً!! وبين الاستدالل الأول والآخر في منهج هؤلاء، عشرات من نماذج غياب الفقه وقلة الوعي وفساد التصور. فنصوص الجهاد - وفق هذا المنهج - مطلقة وعامة وغير مقيدة، وأحكامه لا اعتبار فيها إلا للتفسير الخاص بحسب الأحوال، وشروطه مشرعة لمزيد من الاجتهاد والنظر! كما أن ثمة خلطاً كبيراً - في مفهوم هذا الفكر أيضاً - في الولاء للمؤمن والبراء من الكافر، بمحاولة طرده على تطبيقات حسية ربما ترتب عليها عدوان أو ظلم بأي معنى من المعاني! أما أحكام المستأمنين والمعاهدين فتغيب الرؤية فيها من خلال إدراك أنها أحكام خاصة معتبرة الانعقاد، وأن هذه الأحكام لا تتأثر بأحوال وظروف تدافع الناس بعضهم ببعض، وإنما هي أحكام ثابتة قائمة على الصدق والعدل والوفاء. وبكل حال، إذا كانت الحقائق تحدد أهم أسباب هذا العنف، فلأي شيء يتضخم الحديث عن أسباب وإن كانت فاعلة ومؤثرة، إلا أنها لن تكون - بالتأكيد - أكثر فاعلية وأثراً من سبب الجهل بالحكم الشرعي؟! وعلى سبيل المثال، فإنني أعتقد أن تحميل مسؤولية انحراف هذا الفكر على مؤلفات سيد قطب - رحمه الله - قفز على الحقائق؛ لسبب قريب وهو أن هؤلاء لا يعتبرونه ذا أهلية علمية للصدور عنه، عدا عن أن أكثرهم يفسقونه ويبدعونه كما يتضح ذلك جلياً في أدبياتهم الطافحة بالتصنيف: تزكية، وتفسقاً، وتكفيراً!. وعليه، فهؤلاء يصدرون عن رؤية معرفية خاصة تقوم على النظر في النصوص الشرعية استقلالاً، ومن ثم تفسيرها وفق منظومة خاصة، تمثل فيها الأحادية سمتها الأبرز، إضافة إلى تضخيم الأقوال والاجتهاد الى حد التقديس بدلالته موازاته بالنص، نظراً لغياب ملكة المناقشة وعدم القدرة على عرضها على الكتاب والسنة لتمييز الصواب من الخطأ فيها. وإذا كنا قد أطلنا في التدليل على أن الجهل هو سبب نكبات فكر الغلو وتطبيقاته، فلأجل أن تقوم الحجة على القادرين على رفع هذا الجهل بالعلم الشرعي الوسطي الذي لا يعني سوى الالتزام بدلالة النص الشرعي وفق فهم صحيح قائم على أسس علمية وموضوعية مجردة، ليس من خلال عرض الشبه والرد عليها فقط، وإنما أيضاً بالمبادرة إلى إشاعة الوعي بالأحكام الشرعية في المسائل المشكلة عند هؤلاء. إن مواجهة جرائم التفجير لا تكون بالتشكيك في فريضة الجهاد، ولا بالقفز على معاني الولاء والبراء، ولا بتمييع فوارق التمايز العقدي مع الآخر، لكن ذلك يمكن أن يكون بإشاعة فقه الجهاد بدءاً ببيان معناه الحقيقي بكونه بذل الجهد في تحقيق مراد الله ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بما يفتح آفاقاً واسعة تتجاوز المفهوم الذهني، ليشمل جهاد النفس اللازم من خلال بذل الجهد في تنمية الذات بالعلم والفقه والعقل ومعالجة الأخطاء والعيوب، تأسيساً على الوعي بأن الجهاد الحقيقي يبدأ من إصلاح المرء ذاته ومجاهدتها للاستقامة على أمر الله، وبذل الجهد المعتدي بالمشاركة الفاعلة في دفع مسيرة تنمية مجتمعه، والوعي بالمخاطر المحدقة بوطنه لئلا يكون أداة لأصحاب النيات السيئة من حيث يدري أو لا يدري، وهذا الوعي يستند إلى حقيقة أن الأقربين أولى بالمعروف، تزامناً مع إدراك أن الجهاد الحسي له شروط وأحكام وضوابط لا يجوز القفز عليها ديانةً، وأن الله - تعالى - لا يكلف نفساً إلا وسعها، وأن الجهاد مما تجري عليه أحكام التكليف الخمسة، وأنه إن تعذرت نصرة المظلوم حساً، فإن ثمة أوجهاً عديدة للنصرة تبدأ بالمشاركة الشعورية ولا تنتهي إلا بالدعاء. وفي الولاء والبراء معنى عميق هو سر هذه القيمة لابد من الإعلان به.. فالولاء مصطلح مواز للمحبة والتعاون على البر والتقوى التي يجب أن تسود بين أبناء المجتمع المسلم، والبراء من غير المسلم لا يعني خفر ذمته بحال، وإنما بقدر ما يكره معتقده يتعمق الوعي بحرمة الاعتداء عليه أو هدر حقوقه الإنسانية، بل تجري عليه أحكام المعاهدين والمستأمنين، بحفظ حقوقه فلا يظلم ولا يغدر به ولا يروّع ولا تنتهك ضروراته، استجابة لأمر الشارع، واستشعاراً للآثار السلبية المترتبة على العدوان عليه، وهي آثار بعضها خاص بوقوع المعتدي في معنى الوعيد على من اعتدى على المعاهَد، وبعضها الآخر متعدِّ يطال صورة الإسلام التي استشرف الشارع رعايتها وصيانتها واعتبارها مصلحة كبرى ومقصداً كلياً، بحيث لا يتسبب في تشويه صورته بغدر أو خيانة أو عدوان، ومن ثم تعويقه عن التمدد والانتشار، كما يطال جزء منها صورة الوطن الذي ينتمي إليه، ووعيه بذلك يقيه من أن يكون سبباً في تهديد أمه مجتمعه الذي هو بالضرورة تهديد لأمنه الذاتي. يتسق الموقف من حادثة الاعتداء على القنصلية الأمريكية مع هذه المضامين.. فبقدر ما نعي أن الولاياتالمتحدة تمارس سياسات الكيل بمكيالين على مرأى ومسمع من العالمين، خاصة فيما يتعلق بقضايانا العربية والإسلامية، وتتذرع بواقع الهيمنة والعلو لتفرض وصايتها على العالم، وتجوس الجغرافيا لإعادة رسم خارطة الديار والأفكار، نعتقد أنه لا يجوز الاعتداء على أيِّ من مواطنيها في بلادنا ولا ترويعهم ولا ظلمهم ولا خفر ذممهم بأي صورة من الصور، لأن في ذلك تعدياً على الحكم الشرعي أولاً، وتأثيراً سلبياً على أمننا واستقرارنا ثانياً. أخيراً: لا زلت أعتقد أن من يواجهون إشكالات عقدية وفكرية مقلقة، ليسوا إلا ضحايا لغياب المؤسسات العلمية والجامعات ومراكز البحث عن أدوارها المناطة بها.. وإلى أن تقوم تلك المؤسسات بتلك الأدوار المعرفية في بناء منظومة معرفية عقدية «هادية» عن أحكام علاقتنا بالآخر في أحواله وأحوالنا كلها، فلا بأس على مثل هذه الكتابة أن تدلي بدلوها الذي هو أضعف الإيمان.