الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد: فقد جاء الإسلام بتعاليمه السمحة، ومبادئه القويمة، ومقاصده العظيمة، ليحفظ للناس دينهم، ويوفر كرامتهم، ويصون لهم حقوقهم وضروراتهم، ويرشدهم إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. ولما كان الانحراف الفكري والقصور في العلم الشرعي يسبب الاعتداء على الناس أموالهم بغير حق وانتهاكًا لحرماتهم، وأمنهم ومصالحهم، كان لزامًا أن تتضافر الجهود لمدافعته والقضاء عليه، صيانة لضرورات الناس، وأمنهم ومصالحهم، وحماية لهم من تبعات الإرهاب وآلامه وشروره. إن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات الحية بأن حركاته وتصرفاته الاختيارية يتولى قيادتها فكره وعقيدته، فالإنسان مقود أبدًا بفكرة صحيحة أو فاسدة. وعلى هذا فإن السبب الرئيس للغلو وسلوك سبل العنف والإرهاب انحراف الفكر وضلاله، والتباس الحق بالباطل لدى أصحاب هذا الاتجاه. ولهذا الانحراف الفكري أسباب، منها: 1- الأخذ بظواهر النصوص دون فقه ولا اعتبار لدلالة المفهوم، ولا قواعد الاستدلال، ولا الجمع بين الأدلة، ولا اعتبار لفهم العلماء، ولا نظر في أعذار الناس. وهذا المنهج سبب لصنوف من الانحراف والضلال، وأشد ذلك وأعظمه خطرًا التكفير، والحكم بذلك على الأشخاص والجماعات والأنظمة دون فقه، أو تثبت، أو اعتبار للضوابط الشرعية، وهو ما وقع فيه بعض الأفراد والجماعات في هذا العصر، حيث توجهوا إلى تكفير الناس بغير برهان من كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ورتبوا على ذلك استباحة الدماء والأموال، والاعتداء على حياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، والاعتداء على مصالحهم العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها، فحصل بذلك فساد كبير في المجتمعات الإسلامية. وقد جاءت النصوص بالتحذير من التكفير، والوعيد الشديد لمن كفر أحدًا من المسلمين، وليس هو كذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما”. وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من دعا رجلًا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه”. كما دلت النصوص على أن التكفير -كسائر الأحكام الشرعية- لا يتم إلا بوجود أسبابه وانتفاء موانعه، ولذا قد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر، ولا يكفر من اتصف به لوجود مانع يمنع من كفره كالإكراه. وقد ينطق المسلم بكلمة الكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما، فلا يكفر بها لعدم القصد، كما في قصة الذي قال: “اللهم أنت عبدي وأنا ربك”، أخطأ من شدة الفرح، وكالذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله، فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف، ففعلوا به، فجمعه الله ثم قال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ما حملني عليه إلا مخافتك فغفر له”. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكنه كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك، والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من ذلك”. هذه الضوابط ونحوها مما بيّنه العلماء، وفصلوا القول فيه تبين خطأ منهج أهل التكفير، وغلوهم وضلالهم عن منهج سلف الأمة. وبالجملة فإن الواجب مراعاة قواعد الاستدلال؛ برد المتشابه إلى المحكم، والمجمل إلى المبين، والجمع بين النصوص، واعتماد تفسير الصحابة رضي الله عنهم وفهمهم للنصوص، فهم قد عاشوا وقت تنزل الوحي، وأعلم باللغة ومقاصد الشرع، ثم آثار السلف الصالح أئمة الهدى الذين يقتدى بهم، بهذا يتوصل إلى الحق، وتحصل السلامة من الزيغ والضلال. 3- الجهل بمقاصد الشريعة؛ وهي غاياتها، والحكم والمعاني والمصالح التي شرعت الأحكام من أجلها، والتي تعود إلى إقامة المصالح الأخروية والدنيوية. والواجب مراعاة هذه المقاصد حتى تكون الأعمال صالحة ومعتبرة شرعًا، وإنما يدرك هذه المقاصد الراسخون في العلم بالشريعة، وتفاصيل أحكامها، وغايات تشريعاتها. وأما غير الراسخ في العلم فيأخذ بجزيئات من النصوص، ويقول فيها برأيه، فيهدم كليات ويعطل مصالح عامة معتبرة، وربما اقترن بالجهل بالمقاصد بعض الأهواء الكامنة في النفوس الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل، والمانعة من الاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الإنسان. قال الشاطبي رحمه الله: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، [فقد يكون] مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة”. ومن صور الخلل في اعتبار المصالح والمفاسد في هذا العصر الدعوة من بعض الجماعات أو التنظيمات إلى الاعتداء على مصالح بعض الدول المعتدية، وعلى رعاياها، في بلادهم وفي سائر الدول الإسلامية وغيرها ووصف ذلك بالجهاد واعتقاد أن في ذلك تحقيقًا لمصالح الأمة. والحق أن في هذا من المفاسد، والمخالفات الشرعية، والتعارض مع مقاصد الشريعة ولا سيما مع النظر في واقع الأمة المسلمة اليوم مع أعدائها ما يوجب القطع بحرمته. فمن ذلك: إخفار ذمم المسلمين بالاعتداء على المعاهدين والمستأمنين، واستبدال الأمن بالخوف في المجتمعات الإسلامية الآمنة، وإراقة الدماء المعصومة، والإفساد في الأرض. ومنها التنفير من الإسلام، وتهييج الأمم الكافرة، واتخاذهم من تلك الأعمال ذرائع يتسلطون بها على أهل الإسلام. وقد ذكر العز بن عبدالسلام رحمه الله: أن أي قتال للكفار لا يتحقق به نكاية بالعدو فإنه يجب تركه، لأن المخاطرة بالنفوس إنما جازت لما فيها من مصلحة إعزاز الدين والنكاية بالمشركين، فإذا لم يحصل ذلك وجب ترك القتال، لما فيه من فوات النفوس، وشفاء صدور الكفار، وإرغام أهل الإسلام، وبذا صار مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة.