الماء قوام الحياة وأساس سكنى الديار، وبدونه يهجر الإنسان المكان وتقفر الأرض من سكانها وتفتقر، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، فالشرب والرعي والزراعة لا تقوم في أماكن الجفاف، وعمران البلدان جاء بجوار الأنهار والوديان والمناطق التي يتوفر فيها الماء. ولقد تعلم أجدادنا من الحياة الصعبة طرق حفظ الماء وعدم الاسراف في استخدامه وأولوه أهمية كبيرة، واحتلت مفردة الماء مكانة في ذاكرتهم وأدبهم واهتمامهم، وما كان له الأهمية فإنه يكثر استخدامه في ثقافة الشعوب، جاء في الأمثال الشعبية قولهم: (الشتاء يبي صميل والقيظ معك علمه) ويضرب المثل للاحتياط في السفر بالتزود بالماء سواء في الشتاء أو الصيف، كما يضرب المثل للاحتياط عموما في كل ما يحتاج لذلك. وقالوا أيضا (الماء ما يغطيه النبيث) ويضرب المثل لشيء لا يمكن إخفاؤه كالأخبار المهمة والثروات والأموال وما شابهها. وقالوا أيضا (يغصون بالماء ويجرعون البعارين) ويضرب المثل لغياب المعايير العادلة عند بعض الناس. كما قالوا أيضا (الماء ما سمّن الضفدع) ويضرب لمن لا ينتفع بما لديه. كما قالوا (ضوه مرشوشة بماء) ويضرب للمشكلة تنطفئ فجأة أو فتنة يقضى عليها، والضو: هي النار. ماني بمن يطرد سراب بمضماه شاف السراب ويحسبه إنه غديري وأيضا قالوا (اغسل يدك منه بالماء والصابون الممسك) ويضرب للشيء تقطع صلتك به أو العمل تنتهي منه، أو أمر من الأمور تفارقه تماما لعزوفك عنه. وقالوا أيضا (يقلبه السيل ويقول ديمة) ويضرب لمن تجري الأخبار المهمة حوله وهو لا يدري ماذا حصل لغفلة فيه أو تغافل. أيضا قالوا (كل عليه من زمانه واكف) والواكف هو نزول ماء المطر من السقف، ويضرب المثل لانشغال الناس بمشاكلهم التي يعانون منها. وقالوا (ألطف أو أبرد من الماء على الظميان) يقول الشاعر ابن حاضر: ألطف من الماء على الظميان وأبرد علينا من الفيّه ويقول الشاعر عبدالله بن سبيل: لا تاخذ الدنيا خراص وهقوات يغرك عن نقل الصميل البراد ويقول الشاعر علي المخيليل: الله لا يسقي ضماكم معازيب صبيكم لاجا المطر تطردونه يوم المطر سيّل جميع المشاريب صبيكم عقب المطر ما تبونه ويقول الشاعر صقر النصافي تضحك وانا صملان قلبي مطواة تقول لي لين الفلك يستديري ماني بمن يطرد سراب بمضماه شاف السراب ويحسبه إنه غديري وهكذا جاءت مفردة الماء أو المطر والسيل، حاضرة في الثقافة الاجتماعية سواء الأمثال الشعبية أو الشعر، أو الأقوال الدارجة، وهذا الحضور من دلالات الاهتمام. ومن عنايتهم بالماء والتوفير والاقتصاد في استخدامه والاهتمام بحفظه؛ حفروا بجوار كل مسجد بئراً وأوجدوا أماكن للغسل والوضوء تسمى تلك المجموعة (مسقاة) وإن كانت تطلق أساسا على البئر لكن التسمية تنسحب على كل تلك المنظومة، ولا تطلق التسمية على أي بئر في المزارع. ثم خصصوا لكل مسقاة أو ميضأة، دلوا متوسط الحجم إلى صغير، يصب بواسطته الماء في قرو للوضوء عمل من الحجر، صغير الحجم قياسا على تلك القراوة المخصصة لشرب الإبل والغنم والمواشي، كما خصصوا قروا أصغر منه خصصوه للغسل مستقلا وبمكان مستور، ويكفي ملء القرو من يغتسل لمرة واحدة، لأنه يملأه قبل دخوله المكان ثم يغتسل حتى ينتهي ذلك الماء ولا زيادة عليه. وكل هذه المياه سواء ماء الوضوء أو الغسيل لا تصرف في بيارة كما اليوم ولا يستسيغون صرف الماء ناحية المياه الجوفية السطحية وتلويثها فهم لا يصرفون في الآبار إلا مياه السيول الطاهرة العذبة، حتى أنهم لا يصرفون المياه المالحة ناحية الآبار لمعرفتهم بمخاطر تلوث الماء العذب وهو قوام حياتهم وبقائهم في المكان. إنما تصرف مياه الغسيل والوضوء ناحية مجموعة نخيل بجوار المسجد يسمون الواحد منها في بعض الأقاليم (حويّط) تصغير حائط وهو البستان، تجمع المياه يوم أو يومين في بركة صغيرة تسمى (جابية) وبعد امتلائها يفتح مخرجها على إحدى النخيل، وهكذا لكل نخلة يوم أو أكثر، وتكون ثمار النخيل للقائم على العناية بها سواء مؤذن المسجد أو الإمام أو بحسب مصرف الوقف وما خصص له. وفي هذا اقتصاد في الماء وتوجيه للفائض منه لما ينفع المجتمع. كما أن بعض المنازل يكون فيها بئر يجذب منها الماء لأهل الدار ويسمحون لبعض جيرانهم عند الحاجة التزود منها، وفي كثير من المنازل نخلة أو أكثر أو أي شجرة مثمرة كالأترجة أو التينة أو السدرة، والغرض من ذلك صرف ماء الوضوء وغسيل الأواني وغيرها من المياه الطاهرة لتلك الأشجار بغرض الاستفادة وتحقيق مردود اقتصادي ينتج من ذلك الماء الذي قد يذهب خسارة وبالإمكان استغلاله فيما ينفع، وبالفعل ينتفعون من نخيلهم في منازلهم وقد تكفيهم جزءا من حاجتهم. أما استعمالاتهم الماء فلم تكن كثيرة وليس فيها إسراف، كما أن لديهم تدبيرا حيث خصصوا قروا للماء العذب للشرب والطبخ، بينما خصصوا آخر للماء غير العذب ويسمونه الماء المر، يؤخذ منه للغسيل ولرش أرضية الدار والطريق وأي استعمال آخر لا يحتاج لماء عذب، كما أن كل أوعية حفظ الماء ليست كبيرة كما هي خزانات الماء اليوم ، كما اهتموا بكل ما يتبقى بعد هطول الأمطار كالغدير والقلتة والحسو والجفرة والنقعة.. الخ واعتبروها مخازن مهمة لا يستهان بها ولا يلوثونها بل يحمونها من العبث وينظفونها قبل موسم الأمطار كل عام، لكي تعينهم فترة من الزمن خاصة وأن الأمطار موسمية غير دائمة. ولم يحتج المجتمع إلى توعية متكررة وتأكيد على الترشيد في استخدام الماء، كما أن أسلوبهم المعتدل حول ذلك يطبقونه عمليا وقد توارثوه من الأجداد جيلا بعد جيل، وقد اعتادوا بسليقتهم وطبعهم على ذلك وليس لديهم مواسير ماء وحنفيات تصب الماء صبا تفسد عليهم أسلوب الترشيد، بل يرون المعاناة المتكررة كلما أرادوا استخراج دلو من ماء البئر، أو نقل القربة على الظهر أو على الدواب من مصدر بعيد، فالماء القليل عودهم على الاقتصاد فيه والأخذ منه بقدر حاجتهم فقط، فرب ضارة نافعة أدت بهم إلى شكر المنعم وحفظ النعمة. ومع قلة المياه والاقتصاد في استهلاكه إلا أنهم اعتنوا بالنظافة ولم يتوقفوا عن استخدامه فيما له ضرورة، فالدار ترش بالماء أرضيتها والسطوح كذلك كل يوم تقريبا، وكذا الطريق وأسواق البيع، فالسقاء يتعهد المرور أمام الدكاكين كل صباح ويرش الطريق بقربة يحملها على ظهره لقاء قروش ومبلغ يسير أو تبرعا منه، فيلطف الجو فلا يتطاير الغبار أثناء التسوق. وأما الفرش والملابس والبسط فتغسل في مياه أقرب المزارع وتصرف للنخيل مع السواقي (الجداول المائية). ونقدم نماذج يماثلها العديد في كل قرية وبلد لآبار تجاورها بساتين صغيرة يسمونها حويطات ونخيل على مساحة صغيرة ولكنها كافية لاستيعاب الفاضل من ماء الوضوء والاستفادة من ثمار النخيل. تلك أفكار عملية ونماذج لم يطبقها جيل اليوم ولم يسع لتقليدها وكأنها غير موجودة في حين تعد فكرة اقتصادية لا مثيل لها وناجحة منذ آلاف السنين اعتمد أجدادنا تطبيقها لرشدهم وعقلانيتهم وحرصهم على ثرواتهم من باب حفظها لتدوم فالنعمة مع الشكر تبقى وتزيد، كما أن من يعيش في صحراء لا ماء فيها عليه أن يكون فطناً في مجال استخدام الماء والحرص عليه. وفي واقعنا اليوم يوجد أمام العيان بعض بقية من الأمس تتمثل في بتراث لا يزال قائما، من ذلك: مسجد الزرقاء في ثرمداء، وبجواره البئر وحويط النخل وكذلك (مدي) الماء وهو حوض مستطيل بمساحة صغيرة لكنه يكفي لسقيا العديد من الأغنام. ونموذج آخر: مسقاة السدحانية بئر في القصب بالوشم يتجاوز عمرها المئة سنة، فقد عمل على استنباط المياه فيها وتقديمها سبيلا ليستفاد منها في شرب الأغنام والإبل والماشية للحاضرة والبادية. وكلها تشرب من المدي المقام بجوار البئر على أفواج منذ حفرها وحتى الآن وقت كتابة هذا المقال. سبيل السدحانية بالقصب القرو حوض صغير مخصص للوضوء مسجد الزرقاء بثرمداء ناصر الحميضي