القصر الكبير يلعب دوراً حيوياً في جرعة الثقافة المكثفة التي تقدمها باريس لروادها. هذا المبنى العريق منذ عام 1900، بقاعته الشاسعة المهيئة لعروض الفن الحديث والقبة الزجاجية البديعة التي ترفع كامل سقفه للسماء ويسمح بالتحوّرات اللانهائية في الهيئة، يذهلك متحولاً لمضمار للخيل أو لمحفل لملاهي الأطفال أو لحدائق أو معابر مائية تستضيف المسرحة المبدعة لحبكات مصممي الأزياء جنباً إلى جنب مع عروض الفن الحديث بمختلف رموزه. لا يستقر القصر الكبير على حال ويدهشك هذه المرة بتلك الشوكة بلون زهري صارخ ضاربة بمدخله معلنة عن المعرض الجريء الذي يحمل عنوان (تذوق باريس 2016) هذا المهرجان في عامه الثاني، مستضيفاً رموز المطبخ الفرنسي، معترفاً بالطبخ كفن. وإن شهادة القصر الكبير لا يستهان بها في عالم الفن لأنها تمنح شرعية لمن ولما تستضيفه تلك القاعات، تماماً كما حدث حين استضاف القصر عام 2006، عدد 150 فناناً من فناني الجرافيتي طالباً منهم تعريف كلمة حب على الكانفاس، معترفاً بفن الشوارع كظاهرة ثقافية، مانحاً أولئك الفنانين فرصة لترك بصمتهم الخالدة في تاريخ الفن عوضاً عن رسوم الشوارع المهددة بالمحو الدائم. والآن و للفترة من 11-14 فبراير تدخل القصر لتفاجأ بالجو الاحتفالي والذي تخلقه تلك الأكشاك، كل مساحة يحتلها طاه من عدد ال18 طاهياً من الطهاة الموهوبين ممن يطلق عليهم لقب طهاة الثلاث نجوم والذين ينتمون لظاهرة المطابخ التي تنبثق فجأة في العالم وتعرف بمطبخ البوب أب. وإن بوسعك مقابل 135 يورو أن تخترق الطوابير اللانهائية وتشارك في وجبة الغداء أو العشاء المنظمة بالطابق الأول، حيث يستضيفونك ويعرضونك لمذاقات متعاقبة، لا تتجاوز بضع لقيمات، تضعك في سياق المطبخ الباريسي وإبداعاته الآن، أو لديك خيار أن تتجول بالطابق الأرضي، تقف بكل كشك وتتذوق مذاقاً جديداً، عدد 60 طبقاً مبتكراً، وحولك حيوية الأطفال الذين جاءوا برفقة ذويهم للتلذذ بتلك الاحتفالية وفي نفس الوقت للتعرف على ما توصل له المطبخ الباريسي وفن الأكل المعاصر الذي يمثل جزءًا من حضارتهم. كما يشارك في المعرض المنتجون والحرفيون في مساحات يعرضون ما توصلت له المذاقات الفرنسية الراقية في أصناف المربَّيات والكافيار وسمك السلمون المدخن وزيوت وعجائن الزيتون، والتي يعرضونها بالتنسيق مع كلية المطبخ الفرنسي College Culinaire de France. كما يشمل المهرجان ورشات عمل لترسيخ فن الطبخ وأسراره في المشاركين بتلك الورشات ممن يهمهم التعمق في تلك الحرفة الفنية. معرض يضع الطهاة الناشئين جنباً إلى جنب مع الطهاة العريقين والحاصلين على نجمة الميشلان التي تعد اعترافاً عالمياً بعبقرية حاملها مثل آلان دوكاس ورومان مدر، وغيرهم. كما تقام ورشات طبخ ترفيهية تعليمية للأطفال وتشيع حيوية في القصر الكبير. يتمسرح الطبخ هنا متحولاً لعرض مشوق من الحركات الراقصة و البهلوانية والتي تمتع الجمهور بإشباع كافة الحواس، والتي تجسد الطعام كعامل موصل للمشاعر، النظرية الذي انتظم حولها عدد من الروايات العالمية، والتي تعتمد مسرحك مشاعر الطباخ التي هي من أهم البهارات التي قد تزيد عذوبة الطعام أو تفسده. مثل الراوية الشهيرة شوكليت للكاتبة جوان هاريس والتي تتناول حكاية مدينة فرنسية صغيرة Lansquenet-Sous-Tannes، بالمائتي ساكن والتي انقلبت رأساً على عقب بوصول تلك المرأة التي تصنع الشوكولاتة، ولقد تحولت الرواية للسينما وحققت نجاحاً كبيراً، أو رواية طعام الحب للكاتب انتوني كابيلا. وهي ظواهر ثقافية تضع ما يمكن أن نسميه الطعام الفني في مرتبة راقية ترتقي به عن دور تغذية الجسد فقط لتغذية الروح. الجدير بالذكر أن مهرجان (تذوق باريس) هو ضمن ظاهرة حديثة تم اختراعها منذ عام 2004 بلندن، وباريس هي ضمن برنامج من 23 تظاهرة ستتم بأرجاء العالم للعام 2016، في تورنتو ولندن وأبو ظبي وموسكو ومليبورن وأوكلاند. ويتوقع أن تستقطب 490000 زائراً يتذوقون عدد 1470000 طبقاً مبدعاً. ولنتخيل مرور هذا المهرجان بالمملكة، والقائمة المذهلة لتنوعات مطبخنا السعودي الذي تَبَنَّى مطابخ من الشرق والغرب وقام بتطويرها، بالإضافة للاطباق العريقة مثل الجريش الذي نحِنُّ لطراوته والمطازيز والمندي والمبشور والأرز البخاري إبداع الًوالدة هنية رحمها الله.