في العقدين الأخيرين أثبتت ثقافة المدرسة الدينية السعودية تأثيراً ملحوظاً في بعض البلدان العربية والإسلامية. ونظراً لثقلها السياسي والاقتصادي والديني تسربت كثير من المظاهر، وعلى رأسها الظواهر الدينية إلى تلك البلدان، وأصبح من الطبيعي أن تشاهد مظاهر دينية متأثرة بالمدرسة التقليدية السعودية يخطئ الكثيرون حينما يعتقدون أن بداية عداء الحركات الإسلامية للولايات المتحدة بدأ بعد وصول الثورة الإسلامية في إيران للسلطة، بل إن ذلك يعود إلى ما يقارب ثلاثينيات القرن العشرين مع جماعة الإخوان بمصر. في الواقع وعلى الرغم من الاتصالات الكثيرة التي تمت بين أجهزة مخابرات أمريكية وغربية مع بعض الحركات الإسلامية في العالم العربي إلا أن مظاهر هذا العداء للغرب كانت أصلية، بل كانت هي الباعث الحقيقي على نشوء وتطوير هذه الحركات لأيدلوجيتها الناشئة، حيث كانت الأيديولوجيا الإسلاموية مرتكزة على مسألة «الهوية»: لا تجد الإسلاموية صيغتها إلا في مواجهة الغرب حضارياً. تصور أمريكا كدولة شريرة بالنسبة لواحد من أهم شخصيات الحركة الإسلامية وهو سيد قطب -الإخواني المصري- بدأ قبل أن تقوم أمريكا بدعم إسرائيل، أو التحالف مع بعض الأنظمة القمعية العربية في الخمسينات والستينات، فعلى ظهر الباخرة التي أقلته إلى نيويورك عام 1948 يصف سيد رحلته إلى بلد مادي بدائي، حيث توجد أرض العدو «الرجل الأبيض»، وحيث لا توجد أي فضيلة. يكتب سيد قطب: «أمريكا التي تعيش عقوبة الفطرة، لا بد أن تبدأ في التراجع، فإن أمة بلا فضائل أخلاقية، ولا ثروة في القيم الإنسانية، لا يمكن أن تستمر في قيادة البشرية». هذا العداء كان يصدر في وقت مبكر عن شخصية فنان وأديب لم يسبق له دراسة الشريعة ولا علومها، وذلك قبل أن يكتشف «الحاكمية». على الطرف الآخر يكشف الديبلوماسي والمفكر الفرنسي غي سورمان في كتابه «أبناء رفاعة الطهطاوي: مسلمون وحداثيون» عن جوانب قصة أخرى، هذه المرة لشيخ أزهري هو رفاعة الطهطاوي، والذي أرسل قبل رحلة سيد قطب بأكثر من قرن من الزمان إلى باريس بصحبة البعثة التعليمية التي أمر بها محمد علي باشا. وعلى الضد من رحلة سيد الطهورية المتعالية في نظرته لأمريكا، كان رفاعة شيخاً وعالماً أزهرياً متمكناً من علوم الآلة الشرعية، قد جعل من رحلته فرصة هامة للتوفيق ما بين الإسلام والحداثة. عاد سيد قطب ليكرس العداء ما بين الإسلام والآخر، حاملاً نظرة زهدية ونفساً خلاصياً ودموياً، بينما عاد الشيخ رفاعة الطهطاوي بمشروع ترجمة الحداثة الغربية للاستفادة منها. أثمرت رحلة رفاعة بداية النهضة العربية ورجالاتها، بينما أنتج سيد كتيبات تعبوية لشحذ الجنود لمعركة الخلاص .. مفارقة عجيبة للغاية، ولكنها متكررة بطول البلاد الإسلامية وعرضها. في بدايات تكوين الدولة السعودية في الثلاثينات والأربعينات، بل ووصولاً حتى نهاية السبعينات كان المجتمع السعودي التقليدي الحضري والبدوي يتعرض للتغيير ويتكيف بأشكال متفاوتة مع نظام المجتمع الحديث، وهو في الأخير شكل يمكن تسميته بالتحديث المحافظ، وهي تسمية مجازية لأن المحافظة والتحديث هنا لا يصل كلاهما إلى الحد الفاصل الذي معه تتشكل سمات التحديث الثقافية المعاصرة. وفي كل ذلك كان الاحتكاك بثقافة الأشقاء العرب أمراً هاماً، واستفاد السعوديون وتأثروا بتلك الثقافة، ولكن مع التغيير الكبير الذي طرأ على سطح المجتمع خصوصاً مع فترة الطفرة النفطية الهائلة استطاع المجتمع السعودي تحقيق نوع من الاكتفاء النسبي -على مستوى العلوم الطبيعية-، ولكن على الجانب الآخر ظلت العلوم الشرعية دون تجديد أو تغيير لا في مدارسها ولا في نتاجها. أراد شيوخ المدرسة التقليدية مجابهة تأثيرات الحداثة الاجتماعية، وفي ذات الوقت تصوروا أن بالإمكان استمرار المدرسة بذات المناهج دون تبديل أو تغيير. في العقدين الأخيرين أثبتت ثقافة المدرسة الدينية السعودية تأثيراً ملحوظاً في بعض البلدان العربية والإسلامية. ونظراً لثقلها السياسي والاقتصادي والديني تسربت كثير من المظاهر، وعلى رأسها الظواهر الدينية إلى تلك البلدان، وأصبح من الطبيعي أن تشاهد مظاهر دينية متأثرة بالمدرسة التقليدية السعودية، ولكن ليس هذا فحسب ف الصحوية الإسلامية حاولت استيعاب المدرسة التلقيدية على مستوى المظاهر العقائدية والتعبدية، أي أنها كانت ترغب في استعمال وتجيير تلك المؤسسة لصالح مشروعها، أو على الأقل تحييدها -ورغم أن ذلك تعثر لأسباب سياسية-، فإن الحذر والتوجس دفع بالمدرسة التقليدية سريعاً لتمييز نفسها عن أن تكون طرفاً في مشروع الحركية الإسلامية. اللافت للنظر هو حدوث تداخل بين تيار الصحوة والمدرسة التقليدية، فمن جهة تعززت مكانة المدرسة التقليدية خصوصاً لدى جيل الصحوة، وفي ذات الوقت تمكنت الصحوة من فرض بعض تأثيراتها على المدرسة سواء في صفوف المتعلمين أو المفتين. الأثر الصحوي على المدرسة التقليدية هو الغالب على المظاهر الدينية التي أشرنا إلى وجودها في بعض البلدان الإسلامية، والتي يظن نسبتها للمدرسة التقليدية، مع أنها في الحقيقة مزيج أفرزته الحركة الإسلامية وفق توليفة للأصل السلفي المحلي، والوافد الحركي ... هذا التأثير في الأخير ليس كله إيجابياً، والسبب بسيط: هناك من الجماعات والأحزاب من يستخدم هذه المظاهر في تلك البلدان ليصادم بها الثقافة الدينية لتلك المجتمعات، ليعطوا بذلك تفسيراً سلبياً لتلك المظاهر الدينية، وهو في جزء منه استغلال سياسي وأيدلوجي تقوم به الأحزاب والجمعيات الإسلاموية المسيسة في تلك البلدان. على الرغم من ذلك فإن قرّاء الساحة الفكرية في العالم العربي بإمكانهم القول أن هناك حراكاً دينياً ونقاشاً نقدياً حيوياً يميز الساحة السعودية عن غيرها. الجيل الشاب في السعودية هو اليوم الأكثر تميزاً من ناحية مناقشته للآراء الدينية وللمظاهر الدينية، هذه الأسئلة تعكس مرحلة صحية وجيدة إذا ما قدر لها أن تتسع، وأن تعطى مساحتها من الحرية في الطرح والمناقشة. قال لي زائر أمريكي أنه يجد المدن السعودية من الرياض وحتى أبها مليئة بالحراك والنقاش في الشؤون الدينية وهو ما لم يجد مثيل له إلا في طهران، وبيروت، والقاهرة مجتمعة. وكما يبدو فإن النضج والتغيير الحاصل في المنطقة لا يشمل الدول كمؤسسات، بل يتعدى ذلك للشرائح الشابة في النسيج الاجتماعي. هناك نماذج لباحثين شرعيين سعوديين تخرجوا من المدرسة الفقهية التقليدية، ويحملون هماً تنويرياً مثيراً للإعجاب، ويمكن ضرب أمثلة بالأكاديمي والكاتب محمد علي المحمود الذي ناقش بشكل جاد الإشكاليات السلفية وموضوعات المرأة، والمستشار الشرعي عبدالعزيز القاسم الذي يدفع باتجاه مسائل التنمية وتطوير الآليات الفقهية، والشيخ محمد الدحيم - القاضي السابق - الذي طالب بموقف معتدل من قاسم أمين - صاحب أطروحة تحرير المرأة-، والشيخ أحمد بن باز المهتم بنقد المخرجات والمظاهر الفقهية المعاصرة. أحد نماذج هذا التنوير الجديد - أيضاً - في الخطاب الديني السعودي -من جيلنا الشاب- الباحث الشرعي ابراهيم السكران، وهو خريج كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكذلك المعهد العالي للقضاء، وتأتي أهمية هذا الباحث من نوعية الموضوعات الاجتماعية التي قام بتحليلها من موقعه كباحث وفقيه. ففي أثناء فعاليات مؤتمر الحوار الوطني الثاني الذي أقيم العام الماضي، والذي شهد جدلاً بين وعاظ تقليديين وبعض المثقفين والكتاب، فوجىء الجميع ببحث تم تقديمه للجنة المؤتمر تحت عنوان «المقررات الدراسية الدينية.. أين الخلل؟» للباحث ابراهيم السكران وبمشاركة المستشار الشرعي الشيخ عبدالعزيز القاسم، والذي قام بقراءة البحث أمام جمهور المشتركين. ما يميز هذا البحث هو أنه كتب من قبل متخصصين شرعيين، ويتناول مسألة حساسة وهي «المناهج الدينية السعودية»- تلك المناهج التي تعرضت للكثير من الانتقاد في الداخل والخارج. يتوصل الباحثان إلى توصيات مثيرة للاهتمام أولها: (تنقية المقررات من النزعات التكفيرية التي يضطرب بها). مؤخراً أصدر الباحث ابراهيم السكران للمكتبة السعودية بحثاً صغيراً ولكن لا يقل أهمية وجرأة عن بحثه السابق، فتحت عنوان «الأسهم المختلطة: حكم تداول أسهم الشركات المتعاملة ببعض المعاملات غير المشروعة». يأتي هذا البحث في سياق حمى جدل ونقاش واسع في المجتمع الفقهي السعودي حول واحدة من أهم محركات الإقتصاد الداخلي وهي «سوق الأسهم السعودية»، حيث نمت هذه السوق في خلال العامين السابقين بنسبة تقارب 84,9٪، وزادت رسملة السوق الذي يضم 74 شركة بواقع 1,15 تريليون ريال، وخلال حمى هذا الانتعاش طرحت مسائل فقهية جديدة وانقسمت الآراء الشرعية إلى اتجاهات متعددة بعضها أباح مجمل هذه المعاملات بعد دراستها من المنظور الشرعي، والبعض الآخر وضع قوائم تحليل وتحريم لهذه الشركات . لطالما كانت المدرسة الشرعية التقليدية صاحبة الكلمة العليا فيما يخص المسائل الشرعية في المجتمع السعودي، ولذلك كان المجتمع يسير في اتجاه التقليد والاتباع للمدرسة التقليدية في غالب الأوقات. ورغم مرور المدرسة الشرعية التقليدية تحت تأثير خطاب متشدد أثناء أوج الصحوة الإسلامية، إلا أنها أفلحت في نهاية المطاف باستعادة جمهورها داخل المجتمع -طبعاً في إطار مزايدة على خطاب التشدد الصحوي-، التحدي الذي يواجه المدرسة الشرعية التقليدية هو وجود أصوات تنويرية شابة من داخل مدرستها وبين مقاعد التدريس والبحث فيها. صحيح، أن هذه الأصوات هي بمثابة الأقلية، ولكنها تسترعي انتباه المدرسة التقليدية بالتأكيد. إذا أخذنا بحث «الأسهم المختلطة» فإن الباحث ابراهيم السكران يطلعنا على أزمة حقيقية يمور بها المجتمع الفقهي السعودي، ويسميها «أزمة الهدر الفقهي» داخل البرامج التقليدية للعلوم الشرعية، وعجز برامج كليات الشريعة عن تأهيل طلابها للعلوم والأدوات الحديثة في الإقتصاد والقانون. ومصدر هذا الهدر هي الآليات التي يحتويها فقه «النوازل» المسيّر لنظام المعرفة داخل الفقه التقليدي، والذي ظل العمل به مستمراً منذ نشوء الفروع الفقهية في التراث الإسلامي. حيث يواجه الفقيه في القديم حوادث متفرقة وقليلة تستدعي منه تقديم الحلول الشرعية لها، أما في العصر الحديث فقد شهد الفقهاء تغيرات وتحولات حضارية هائلة عزلتهم بشكل سافر عن كل متعلقات تراثهم الفقهي، هذا العزل الحقيقي لم يقابله تحول في المدارس الفقهية، بل على العكس آثر الفقهاء الانفكاك عن الواقع والتعلق بتلك الآليات الفقهية التراثية ومحاولة إخضاع نمط الحياة الحديثة للنافذة الضيقة للفقه التراثي، وهو ما يسميه الباحث ب«تكلف المغايرة»، أي (التعسف في تعليب المعاملات المستجدة داخل الأوعية الفقهية التقليدية وقسرها على تقمص أشكال العقود التراثية فتخرج كثير من البحوث بصورة كسيحة تشي بحجم التكلف الهش). السعودية بحراكها الفقهي والديني قد تكون مرشحة جداً للمزيد من التأثير في المنطقة، ولكن التأثير هذه المرة سيكون مجمله إيجابياً، فالسعودية كان لها تأثير سياسي متميز وإيجابي طوال العقود الماضية، وربما قد يكون آن الآوان لأن يقدم السعوديون أيضاً حلولا إسلامية تنويرية، وأن يبدأوا بأنفسهم بتطبيق ذلك. فما يحتاجه العالم الإسلامي هو تنوير للطروحات الإسلامية يبعدها عن واقع التسييس الذي أغرقته فيه الحركات الإسلامية. المدرسة الفقهية التقليدية في السعودية كانت في الماضي القريب قد استوعبت من قبل علماء كان لهم آراء تجديدية، ومخالفة لفتاوى المدرسة، وهم اليوم يقدمون فتاوى هامة للجمهور، فهناك الشيخ عبدالله ابن منيع أبرز رواد المصرفية الإسلامية في السعودية، والشيخ سعود الفنيسان الذي يجوز المشاركة السياسية حتى في الأنظمة الوضعية العلمانية، ويرى ضرورة الانتخابات والمجالس البرلمانية، وهناك الشيخ عبدالمحسن العبيكان الذي يعمل باستمرار على نقد الفتاوى المتشددة خصوصاً تلك ذات الطابع المسيس. إذن فالمدرسة التقليدية لديها الفرصة لتستفيد من هذا التيار التنويري الديني الشاب، وبوسعها أن تفسح له المجال ليطرح ويناقش أفكاره الإصلاحية، حيث أولى مزايا هذا التيار هو ابتعاده عن تسييس المنتج الفقهي، أو توظيفه لأهداف حزبية. نحن ندرك بأن ذلك ليس أمراً سهلاً بالنسبة للمدرسة التقليدية ولكن قواعد المنافسة اليوم، والاستقطاب الدائم على مستوى الأفكار في العالم الإسلامي يفرض مثل هذا النوع من احتضان التغيير من الداخل، واستيعاب الإصلاح من المدرسة ذاتها، وإلا فهناك مخاطر كثيرة تحيط بالجمهور خصوصاً حينما لا تكون المخرجات الفقهية والدينية بالمستوى المأمول، هناك شرائح كبيرة اليوم من الجيل الشاب خضعت لتأثير الجماعات الأصولية الجهادية مثل القاعدة، وشباب آخرين اعتنقوا أفكاراً لا تقل عن تلك تشدداً وانغلاقاً، والبراجمتية السريعة ربما تعني أن يستعيد أولاد رفاعة الطهطاوي صدارة التأثير بدل أن يحظى بها أولاد سيد قطب. العراك اليوم هو على مستوى الأفكار، وأصحاب الآراء التنويرية المتكئة على ثقافة النهضة وإرث رفاعة سيكونون الأقدر على استكمال مشروع التحديث، وإلا فإن القطبيين في المجتمعات الإسلامية يرون معالمهم على الطريق. [email protected]