تاقت نفسه إلى الانعتاق من أغلال المدينة، فناداه صوت الصحراء.. لم يكن بوسعه وهو يحتضن الرمل البارد بكفيه إلاّ أن يتمنى أن يظل غافياً على سرير من الرمل..! لقد ظن أن الرحلة في عالم الصحراء والرمل -كما كانت- سوف تنسيه بعض ما يجد، وسوف تخرجه من حالة التعب التي ظلت تلازمه منذ أمد بعيد، يزيد في تكريسها صخب الحياة، وضجيجها اليومي، وما يشاهده من دماء تسيل فوق دماء، ومن قتلى يدفنهم قتلى..! ومن دمار يسحقه دمار..! ومن السماجات السياسية، والفكرية التي تسمم القلب والروح..! فاختار الهرب من هذا الهوج العنيف إلى العالم الأكثر رحابة وهدوءاً وصمتاً. وقرر المجيء مستبشراً بالسكينة والطمأنينة.. جلس وأخذ يلمس الرمل البارد بأنامله، وراح يلتمس بعينيه النجوم التي كان يعرفها منذ الطفولة، وكانت السماء متوهجة بقناديلها المشعة.. لكن شيئاً غريباً لفت نظره، وهو أن بعض النجوم تتحرك وتسير في خطوط متقاطعة، يظهر بعضها لفترة ثم يختفي ليظهر جيل آخر قادم من جهات مختلفة..!! هذا المنظر أوجعه وأفقده متعة النظر في النجوم الحقيقية، لا تلك النجوم أو الأقمار الاصطناعية التي تجوس السماء للاستكشاف والتقاط الصور ليل نهار..! يا إلهي حتى الصحراء ضاقت..! حتى السماء ضاقت! السماء أصبحت مشوهة والصحراء أكثر تشويهاً، فها هي آلاف الآلات المختلفة التي تفسد عذريتها ونقاءها، ولعل أكثرها تشويهاً وإفساداً هذه الصحون من "الستلايت" التي تراها معلقة أو منصوبة فوق الخيام.. وبيوت الشعر..! أين المفر والعالم يصغر؟ وهذه الصحون تطاردك، والشاشات تطاردك من غرفة نومك إلى أقصى بقعة نائية في الصحراء، وهذه النجوم المتحركة ربما أنها تلتقط حتى أنفاسك..! استلقى على الرمل وأغمض عينيه محاولاً الاسترخاء والهدوء وإيقاف التفكير ولو للحظات. لكنه حين أغمض عينيه رأى صورة السماء مرتسمة في داخل جفنه، ورأى تلك النجوم المتحركة التي تتسابق وتتطارد في الفضاء وهي تحوم في حدقته..! لم تعد الصحراء ذلك المكان النائي البعيد الذي لا تسمع فيه إلاّ صوت الصمت، ولا ترى إلاّ ضياء النجوم ولغة الطبيعة الأزلية، فتندمج في هذا الكون في وحدة نفسية وروحية تجعلك تصغي إلى نفسك، تعيد إليك حياتك المبعثرة بفعل صخب وضجيج الحياة المادية. آه لقد ضاع سر الصحراء! نهض واعتدل في جلسته وراح يفكر ويردد بحسرة: واأسفاه لقد انكشف سرّ الصحراء الغامض الساحر. ليست الصحراء فقط بل الكون كله أصبحت أسراره وعوراته مكشوفة. ومن ثم لم يعد هناك متعة حتى للتناجي بين اثنين على تلة رملية أو ساحل بحري في ليلة مقمرة أو في ليلة مظلمة تتراقص في قبتها آلاف النجوم..