بأي شكل من الأشكال يمكن الحديث عن الاستشراق؟ هل الاستشراق ظاهرة فكرية ارتبط ظهورها في سياق الرغبة في الهيمنة؟ ماذا نعني بالاستشراق؟ هل التحولات التي وقعت في العالم حاصرت الاستشراق واستبدلته بدراسة أخرى؟ إن هذه الأسئلة وغيرها تضعنا في كتاب عبدالله علي العليان «الاستشراق: الانصاف والإجحاف». إن قراءة عنوان هذا الكتاب يظهر لنا الطابع المعياري الذي دأب الباحث على إصداره، ولعل هذه الأحكام تشيء بنوع من المعيارية خارج الطابع العلمي، وإن كان بذكرنا في أكثر من صفحة أن ما يتناوله هو المعرفة العلمية للموضوع. إن هذه العلاقة المسكوت عنها في أكثر كتبنا تفترض منا نوعاً من الاحتراز من إصدار الأحكام وتبويبها، وكأن هذا الإصدار محكوم بإنهاء المرحلة، ونهاية البحث... إلا أن ملاحظتنا هذه والمنطلقة من العنوان ذاته في أكثر الصفات، مثل حديثه عن «ليس من العدل أن..» وهي كلما تبحرنا إلى المنحى الأيديولوجي المراهن على إضفاء طابع العلمية على البحث، لكن مع ذلك يظهر في البحث ذلك رغبته في فتح أبواب قلما تحدث عنها باحثون آخرون واعني المخطوطات - الآثار... إلخ. وإن كان الحديث عنها يدخل في تخصصاتها.. الكتاب إذن لا يضيف شيئاً من الزامية العلمية لخزانة الدراسات التي قاربت موضوعة الاستشراق، ولكننا يمكن اعتباره كتاباً مدرسياً بامتياز للطابع البيداغوجي الذي سار فيه، على مستوى التعريف والتاريخ الدوافع وغيرها، وكلها تفيد القارئ المعني المختص - لتداوله - ولهذه الأهمية أو تلك ارتأينا تقديمه للقراء ليس كمعطى بل كأسئلة تم السكوت عنها، أو عدم إعلانها، والأسئلة التي حددها، إن الأسئلة تلك هي التي دفعتنا للتواصل مع الباحث من خلال هذا الكتاب... ينطلق الكتاب إذن من تحديد عينة موضوعة الاستشراق - وهي من جهة تلازم التعريف بالمرجع التاريخي. يؤكد الباحث الأهمية البالغة للمخطوطات من حيث توثيقها، رسمها وصيانتها من التلف والضياع، بل «لقد وفر لنا المستشرقون ألوف الذخائر العربية، مرتبة، محددة، وموثقة، تعتمد عليها جامعاتنا، ويستفيد منها علماؤنا. إذ سبقنا المستشرقون لنشرها...» ص50. لا أحد يستطيع نكران هذا خاصة وأن أهمية هذه الذخائر وما تشكله من إرث. ولكن في المقابل... وهذا ما لم يطرحه الأستاذ هو أن الغرب في دراساته للذخائر تلك، هيأنا للاهتمام ببعضها دون الآخر.. مثل ابن رشد، ابن خلدون وابن عربي والحلاج... إلخ. إن هذا الاهتمام وليد الغرب ذاته، وهذا ما تحمله الدراسات المعاصرة العربية لهذه الشخوص أو غيرها... وأعني بالاضافة إلى هذا المجهود الوضعي.. هنا تحول بوصلة الباحث العربي منذ أواخر القرن 19 والقرن 20 إلى النظر للمفكرين دون غيرهم.. ولكن الفكر الاستشراقي بكل تنوعات مضارباته العلمية، الأيديولوجية والأدبية وغيرها.. وباختلاف المواطن التي خرج منها - ألمانيا، فرنسا، اسبانيا، أمريكا..إلخ، فإن مقاربة الاستشراق الفرنسي كما يرمي إلى ذلك الكتاب في صفحة 54 - 55 على مستوى جمع المخطوطات والاهتمام بها بين مرحلة وأخرى، والرغبة في معرفة الشرق لغزوه هو ما يعطيني إمكانية قراءة الموقف الفرنسي الأخير من التدخل العسكري في العراق، لمسألة بسيطة وهو أن أمريكا بالمنظور الفرنسي، لا تعرف العرب والإسلام.. هنا تقاطع العسكري بالتمثل العربي والسياسي بالديني... وتتقاطع الدراسات وما يشكله المتخيل الإسلامي في الذات العربية إن الاستعمار إذن محتاج لتدقيق المعرفة بالشرق بكل نواحيها ومجالاتها، وهذا ما يسجله الباحث في السخاء المالي الذي رافق جمع تلك الذخائر، والحفاظ عليها، وقد سرد الباحث أهم المستشرقين، والمجالات المتخصصة التي ساهت بشكل كبير في هذه الدراسات، بالاضافة إلى الجامعات الأكاديمية التي قامت بهذا الدور الرائد... وهذا كله يدل على الطابع المؤسساتي للاستشراق، وهي مسألة تفترض التأمل والتحليل عن ولع الغرب بالشرق دراسة وكبا ليس من قبيل الذات العارفة فحسب بل يتم ذلك في إطار المؤسسة، وما تحمله من حمولة علمية - عسكرية - أيديولوجية...إلخ. بنفس السياق الذي تقدم، سار به الباحث في الفصل الثاني من كتابه، وهو سرد الأحداث والوقائع، وعرض البحث والباحث في الشرق - هذا الأسلوب العرضي الذي يفيد - بشكل أو بآخر - بيداغوجيا على الأقل - في المدارس والجامعات، وإن كان كذلك فهو لا يقدم سوى المعلومة التي يفترض - أو تفرض - على قارئها المتخصص البحث فيها مضموناً وشكلاً - ما بينهما، فماذا يعني هذا الاهتمام الغربي بالشرق؟ المسألة لها جوانب متعددة حددها الباحث - بشكل أو بآخر - في فصله الأول - إلا أن ما ذكره ويذكره - أكثر من لحظة - هو مسألة بديهية، أو على الأقل مسلمة يجب التسليم بها من موقع أي باحث استشراقي. وهي أن الدخول إلى هذا العالم الغريب والعجيب يفترض لغته - أو لغاته - فأول مفتاح هو اللغة العربية على مستوى الإتقان - هذا يذكرني ما يقوله الباحث في صفحات 76 - 78.بما تحدث عنه الأستاذ ع. كليطو في كتابه الأخير «لن تتكلم لغتي» حول علاقة اللغة بالآخر، حيث يتم نوع من الإزعاج والمأزق الذي يخلقه المخاطب (المستشرق - المتقن للغة العربية أو عامياتها...) مع أن ابن البلد كمتلقٍ - بين احساس المتلقي باختراقه عبر امتلاك لسانه الذي يتباهى بتملكه - دون غيره - إن هذه المقاربة في بعدها النفسي.. تزيل من أذهاننا صفات الدهشة حين النظر إلى الآخر/ الغرب التكلم بلغتنا.. إن امتلاك الآخر بالنسبة للذات الغربية هذه المرة لا يتم إلا عبر اللغة، وعبر منهج دقيق، إجرائي في بعده الفطري موضوعي، لكونه إنساناً خارج رقعة موضوع دراسته - وامتلاك النية يفترض مأسستها لا من الجانب اللساني - العلمي فحسب بل جانب الدولة، والجامعة، أي عبر خلق أقسام في الجامعات الفرنسية خاصة بتدريس اللغة وآدابها، ولعل كبريات الجامعات التي يذكرها الباحث بمواقيت إعلانها تدريس اللغة العربية ورؤساء أقسامها ونشاط أساتذتها لسير مؤسسة الدولة أوروبا الصاعدة - آنذاك - والراغبة في امتلاك العالم سواء عبر اكتشافه من جديد أو عبر الهيمنة عليه في مرحلة ثانية - دون ذكر المرحلة الثانية التي شكلت بعداً تكوينياً للغرب، في إعادة علاقته - رؤيته للكون.. يعتبر الباحث أن الدراسات التاريخية والبحثية في التاريخ العربي أكثر الدراسات تحولاً وعمقاً في كتابة هؤلاء» ص88. وينم عن هذا الحكم مسألتان - أولهما - أنه لا ينفي أهمية البحوث في المجالات العلمية الأقرب، وثانياً أنه لماذا استثنى الباحث المجالات تلك، أليس لأن تاريخنا العربي - الإسلامي فيه من العتمات أكثر ما فيه من المظاهر المعروفة..؟ أليس التاريخ العربي - كتابته - منذ بدايات الدولة في الإسلام، ارتهن بالسلطة المركزية، الشيء الذي دفع المؤرخين الكتابة عما يرضي الدولة بأيديولوجيا... وأليس المستشرق - البعيد عنا ثقافة ولغة .. كفيل بفتح بعض المخابئ التي - عادة ما يسكت عنها المؤرخ العربي مستفيداً بذلك من الامكانيات المنهجية العلمية الأخرى - هنا تبدو أهمية الدراسة التاريخية في نظرنا - حسب الباحث. وإن كنا نختلف على مستوى مفهوم «الموضوعية» ابستمولوجيا - وهذا ما يشكل عمق السؤال الاستشراقي ذاته.. وخاصة في كتابة الرحلة عند الرحالة الغربيين لاكتشاف العجيب والغريب، على مستوى الوصف فالدقيق لكل الأشياء البسيطة والعادية التي تشكل وساطات بين الإنسان والعالم، لكن في مستوى آخر يميز الاستشراق في الدراسات العلمية - لا يضيف الأستاذ الباحث - في هذا السياق - غير الإعلاء مما وصل إليه العرب، وكيف تأثر الغرب منهم، بل نبوع من الحنين للمرحلة تلك، ولعل هذا هو ما يشكل الناظم الذي يجمع مجموعة من المفكرين العرب من الشيخ محمد عبده والطهطاوي إلى الآن بطرق لا تخلو من تقوية الأنا الدفاعية عن العرب، وما كانوا عليه، علماً أن تاريخ الثقافات هو تاريخ التفاعلات. وأن ما وصل إليه المفكر والعالم العربي، يظل وسط دائرته، بل تجاوزه ليعود كونياً، فابن رشد وجابر بن حيان، لم يعودا عربيين بل عالميان، لما فتحاه من أسئلة عميقة في ثقافة الغرب.. إن أهمية هذه الدراسة تأتي - في نظرنا - لإثبات دور المستشرقين للحفاظ على هذا التراث من التلف، واخراجه من لغة الضاد، لغته الأصل إلى لغات أخرى بدا الطريق أمامها مفتوحاً نحو السيادة والسيطرة. لا مناص من القول إن الشرق أضحى موضوعاً للاكتشاف والاستكشاف، وإن كان كذلك فإنه لا زال عابراً- يعيش فطرته - لم تلوثه تقنيات الحداثة بعد.. هذا التصور وغيره يدفع شهية الأركيلوجيين لإعادة اكتشاف ما الشرق، وما تخفيه مدنه «لهذا سيتم الاتجاه نحو هذا المنحى، سواء بشكل مؤسساتي أو بشكل نزوع ذاتي »وهو سيان ما دام الشرق هو حامل هذه الغرابة والدهشة والعجائب.. وستكون مملكة سبأ إحداها باعتبارها «كانت المرتكز الأساسي للحضارات اليمنية القديمة التي سادت جنوب الجزيرة العربية» ص114. إن هذه الذخائر الأثرية بمخطوطاتها وتماثيلها... إلخ تلزم لغة.. شفرة - لفكها - هنا تحدث الباحث عن تداخل الاختصاصات وتكاملها لفك رمزية تلك الدخائر - بالاضافة إلى ذلك فهي كمثل الحفريات كشفاً للسر الذي ستره الشرق - وكشف الغامض فيه - ص117. عبدالله علي العليان: الاستشراق: بين الانصاف والاجحاف منشورات المركز الثقافي العربي/ البيضاء - بيروت.