بين كل مشاهد القصف والقتل والتدمير التي تطالعنا كل يوم على مدار الساعة عبر شاشات التلفزيون من مناطق العالم المختلفة ليس ثمة ما يثير اهتمامي ويبعث في نفسي الأسى أكثر من مشاهد الأطفال محمولين على المحفات أو ممدين على الأسرة في المستشفيات أو محدقين في رعب وذهول إلى عدسات الكاميرات وهم يتلفتون حولهم يرصدون كمية الدمار الذي احدثته الصواريخ التي اطلقت من الغواصات وحاملات الطائرات القابعة في أمان على بعد آلاف الكيلو مترات، وما فعلته بمدنهم وقراهم القنابل التي اسقطت فوق رؤوسهم من الطائرات، والقذائف التي اطلقت عليهم من مدافع الدبابات. خلال ثوان معدودة وفي تقرير تلفزيوني من العراق توالت اللقطات كئيبة: مجموعة أطفال يخرجون من بين الركام.. يتجول بعضهم وسط الحطام، طفل يختبئ داخل برميل ولا يظهر منه سوى الرأس، طفلان يرسلان الينا عبر الكاميرات نظرات زائغة ليس لها هدف سوى المجهول، طفلة تحتمي بجدها المسن ذي الشعر القطني الأبيض وقد بدا هو الآخر معدوم الحيلة.. وبعد ذلك كله طفلان يلهوان بطائرة ورقية وسط كل هذا الدمار والحطام! ٭ «عندما تسقط القذائف نهرب من البيت ولا نستطيع البقاء داخله ولا نستطيع النوم ونخاف جداً وتعاف أنفسنا الطعام. لقد هربنا من منطقة الرمادي وجئنا إلى حي آخر». ٭ في تقرير آخر تطالعنا مجموعة من الأطفال تجري في أرض جرداء خلف أكياس صفراء القتها طائرات أخرى كانت ترافق الطائرات التي قصفت المدن والقرى. ٭ تلك الأكياس الصفراء لم تكن سوى المعونات والاغذية التي يقدمها اولئك الذين ارسلوا معها طائرات الدمار! كم هو محزن ومأساوي أن تصفع إنساناً بيد وتربت باليد الاخرى على كتفه في حنان زائف لا لون ولا طعم ولا رائحة. ٭ مناظر هؤلاء الأطفال في الجنازات التي تخرج كل يوم، وهالات النور تحيط بوجوههم المضيئة، واجسادهم الغضة ممددة في النعوش.. هذه المناظر أصبحت مشهداً يومياً تلتقطه كاميرات الوكالات ومحطات التلفزيون العالمية دون أن يحرك ضمائر أولئك الذين يقيمون الدنيا ويقعدونها لصيد الحيوانات أو ذبح الخراف من قبل المسلمين في أعيادهم. ٭ وعلى ذلك قس ما تعرض له أطفال لبنان إبان الحرب الأهلية والاجتياح الاسرائيلي وأطفال فلسطين والعراق والصومال والشيشان والبوسنة وكل المناطق التي تعرضت وتتعرض لجنازير الدبابات وهدير الطائرات وازيز الصواريخ.. تلك المشاهد والاصوات التي تتفتح اعين الأطفال عليها وتغدو جزءاً من أطفال العالم الذين ينعمون بحياة هادئة لا تتخللها تلك المشاهد أو تجرح براءتها قعقة السلاح ويغطيها غبار الانفجارات وترسم خطوطها رحلات الهجرة من قرية إلى قرية ومن حي إلى حي ومن مدينة إلى جبل أو سهل مخترقين الحدود بحثاً عن خيام تؤويهم ومنظمات تجود عليهم بالاغطية وما يقيم الاود حتى يقضي الله امراً كان مفعولاً. ٭ نعود إلى نقطة البداية لنتساءل: أي مستقبل ينتظر هؤلاء الأطفال وهم يبدأون حياتهم بمشاهد العنف والقتل وقصف الطائرات وأصوات الانفجارات تطرد النوم من عيونهم وتفقدهم الشهية للطعام؟ وهل يمكن ان نلومهم فيما لو كان الانتقام ممن سلبهم براءتهم وحرمهم نعمة الاستمتاع بطفولتهم هو ما سيضعونه نصب اعينهم عندما يكبرون؟ ٭ «ما هو الحل؟» هكذا تتساءل طفلة فلسطينية لم تتجاوز الثامنة من عمرها في تقرير تلفزيوني بعد ان تستعرض ما يتعرضون له من قصف ومطاردات وارهاب صهيوني لا يرحم، ترتسم معالمه على ملامح وجهها وتكسو نبرة صوتها الحائرة الحزينة. ٭ عندما يتحول أطفال مناطق الحروب إلى ناطقين رسميين باسم الكبار الذين تخرس السنتهم أسباب بعضها ظاهر واكثرها خفي لا يستطيعون التصريح به، يحق لنا نحن المسترخين في دعة على أطراف مناطق الاحداث ان نقلق على مستقبل اطفالنا ونتعاطف مع اقرانهم الواقعين في مرمى نيران الحروب. ٭ سوف تضع الحرب اوزارها أطال الزمان ام قصر. وستكون لها نتائجها القريبة، غير ان نتائجها البعيدة ستتمثل فيما ستخلفه من آثار على الأطفال الذين عاشوها والذين يشكلون جيل المستقبل، تلك الآثار التي بدأنا نشاهدها على أجساد بعضهم التي تشوهت، غير ان التشويه الأكبر هو ذلك الذي ستتركه في نفوسهم جميعاً دون استثناء.. وتلك هي المأساة الكبرى المسكوت عنها.