الدروس الاخلاقية والقيمية التي قدمتها ميزانية هذا العام كشفت عن هشاشة البنية المجتمعية وأكدت فشل التعليم في بناء المنظومة الأخلاقية أو على الأقل المحافظة على المنظومة الأخلاقية التي كانت سائدة قبل النفط عندما أعلنت الميزانية والإصلاحات الاقتصادية التي واكبتها جزع البعض وصاروا يعزون بعضهم البعض، وظهرت مقارنات للأسعار مع دول أخرى وكأننا مقبلون على كارثة معيشية وأن حياتنا سوف تتأثر بهذه الزيادات البسيطة التي أقرتها الدولة كجزء من إصلاح اقتصادي شامل. في البداية دعوني أقل ان بعض الفئات من مجتمعنا قد تتأثر بهذه الإصلاحات وهذا يجعلنا نفكر بجد في عملية الرصد الاجتماعي وتحديد هذه الفئات بدقة وتقديم الدعم الحكومي لها بل وحتى المجتمعي. ولعلي هنا أتساءل عن مركز البحوث الاجتماعية الذي تأسس قبل فترة وما هو عمله الفعلي لأنني على المستوى الشخصي لم أسمع به منذ تأسيسه وكان يفترض أن يكون أحد ممكنات الحكومة لتحديد الفئات المستهدفة بالدعم. الأمر الآخر هو أن تقوم وزارة التجارة بدورها وأن تبدأ بمراقبة الأسواق والضرب بيد من حديد لكل من يستغل الإصلاحات الاقتصادية لرفع الأسعار، فالاصلاح بحاجة إلى رقابة وإلى سلطة فعالة وليس مجرد قرارات عن بعد. يجب النزول للأسواق وتشكيل فرق من الوزارة في كل مدينة لمراقبة السوق واستقبال الشكاوى ومعاقبة المستغلين العابثين بمستقبل الوطن. ردة فعل المجتمع نحو الميزانية جعلتني أكثر قناعة بأننا نعيش نمط حياة بعيدا عن التدبير، وأن الجيل الشاب في المملكة لم يتعلم تعليما صحيا، فمعنى الصبر واعادة برمجة الحياة بما يتماشى مع المرحلة التي نعيشها غير واردين في قاموس هذا الجيل وأنا ألوم التعليم بالدرجة الأولى لأنه كان تعليما بلا أهداف ولم يعمل على بناء المنظومة القيمية التي تمكن الجيل من التكيف وتحويل الأزمات إلى فر ص. حالة الجزع من زيادات بسيطة غير مؤثرة فعلا على جزء كبير من فئات المجتمع أحدثت حالة من الرعب والخوف من المستقبل وهو خوف غير مبرر جعلني أشعر بمقدار "العجز" الداخلي الذي يشعر به شبابنا، فقد تعودوا على نمط حياة لا يقوم على الانتاج والبحث عن الفرص الصعبة ومواجهة التحديات وهذه كارثة تربوية واضحة بحاجة إلى معالجة تعليمية مبرمجة. الاعتماد على أبوية الدولة وعدم الرغبة في الفطام منها والاعتقاد بأن الحكومة مسؤولة عن رفاهية المواطن دون جهد أو إنتاج كل هذه القيم تكونت لدى افراد مجتمعنا وتحولت إلى قناعات بل ويراها البعض كحقوق مكتسبة.ورغم أن الحكومة تضع على عاتقها تحقيق رفاهية المواطن حسب ما تتيحه إمكاناتها، إلا أن قناعة المواطن بأن هذا حق مكتسب دون أن يكون له إسهام واضح في زيادة الإنتاج والنمو الاقتصادي يمثل حالة "تربوية" غريبة لا أعلم كيف نشأت واصبحت هي العرف السائد الذي يؤمن به مجتمعنا. الميزانية بينت أحد العيوب الرئيسة التي نعاني منها فنحن ننظر للدولة من جانب واحد: أنها يجب أن تعطي ولا ننظر ما هي الواجبات التي علينا تجاه الدولة حتى تكون مستقرة وآمنة. هذا الكلام ليس "تنظيرا" أو مجاملة للحكومة، بل هو محاولة لفهم العلاقة بين المواطن والدولة، فمسألة الانتماء إلى وطن ما هو الا نوع من التعاقد بين فرد وحكومة، هناك عقد يحدد الحقوق والواجبات، فكما أن للمواطن حقوقا فعليه واجبات وأول تلك الواجبات هو حماية الوطن والعمل على استقراره. المشكلة الكبيرة هي أن هناك اعتقادا لدى الكثير من المواطنين أن مسألة الحقوق والواجبات ليست متساوية، فهناك من يحصلون على حقوق من الدولة أكثر من غيرهم دون أن يحملوا أي واجبات. هذا الاعتقاد يجب أن يتغير وبالتأكيد لا يمكن تغييره بالكلام والشعارات بل بالممارسات أي يجب أن تكون هناك شفافية تجعل مسألة الحقوق والواجبات واضحة ليقتنع بها جميع المواطنين. الإصلاحات التي نحتاجها ليست فقط في الميزانية وتوجيه الدعم الحكومي بل يجب أن ترتكز على منظومة القيم بشكل عام وأعود هنا إلى التعليم الذي يجب أن يكون شعاره "تعليم ما بعد النفط"، وهو تعليم يجب أن يربي الجيل القادم على الاعتماد على القدرات والمهارات الذاتية والمساهمة الفاعلة في زيادة الانتاج الوطني واستقطاب الفرص من الخارج واستغلال الموارد الناضبة وتحويلها إلى منتج غالي الثمن. إنه تعليم يفترض أن يحقق نوعا من "الاكتفاء الذاتي" إذا لم يستطع أن يحقق وفرة في الانتاج تصدر للخارج. يجب أن تكون الروح في الفصل الدراسي تنافسية وتحث على الابداع لا أن نصر على ثقافة "الكتاتيب" التي يعتقد البعض حتى يومنا أنها السبيل الوحيد لتعليم النشء. تعليم ما بعد النفط يجب أن يواكبه إصلاح إداري شامل، أي أن جميع مؤسسات الدولة وحتى القطاع الخاص يجب أن تهيئ نفسها للمرحلة القادمة، فإذا كنا نتطلع إلى جيل مبدع يجب أن تكون المنظومة الإدارية قادرة على التعامل مع الابداع وتتيح للمبدعين العمل والظهور. أحد الدروس التي يجب أن نتعلمها من برنامج الابتعاث خلال السنوات الفائتة هو كيف أن البيئة الادارية الحالية لم تستطع أن تستوعب وأن تتعامل مع المبتعثين بعد عودتهم من الدراسة. كان الهدف إحداث تغيير في قيم العمل والانتاج لكن المنظومة الادارية المتحجرة قاومت التغيير ولم تسمح به وهذا يعد من أكبر التحديات، لأنه لا فائدة من إصلاح التعليم بينما هناك بيئة إدارة بالية عفى عليها الزمن. كما أنه لن يجدي نفعا بناء منظومة قيم جديدة (أو في حقيقة الأمر العودة إلى منظومة القيم التي كان يؤمن بها آباؤنا والتي كانت تقوم على العمل والانتاج والصبر..الخ) بينما هناك مجموعات قوى ترفض التغيير والاصلاح. الدروس الاخلاقية والقيمية التي قدمتها ميزانية هذا العام كشفت عن هشاشة البنية المجتمعية وأكدت فشل التعليم في بناء المنظومة الأخلاقية أو على الأقل المحافظة على المنظومة الأخلاقية التي كانت سائدة قبل النفط. نحن مطالبون باستعادة تلك المنظومة سواء سميناها قبل أو بعد النفط، المهم أننا نريد أن نبني مجتمعا يؤمن بقدراته ومقدراته، وأن يركز على ما يملكه ويحافظ عليه ويرشّد إنفاقه لأنه ليس له وحده بل للأجيال اللاحقة. لمراسلة الكاتب: [email protected]