في كل عام تقتحم فضاءات الإعلام في المجتمع أرقام كبيرة لميزانية الدولة وفقها الله، وهي تعبير عن توقعات مالية للعام القادم يمكن أن يبنى عليها الكثير من المشروعات التنموية والتطويرية، والحقيقة أن ميزانية الدولة ومنذ بضع سنوات تحقق أرقاماً كبيرة تعكس مكانة الاقتصاد في مجتمعنا ولن أعيد ذات الحديث عن دور الميزانية ومتانة أرقامها وحجم المليارات التي سوف تقبع في كل وزارة أو مؤسسة حكومية بعد إعلان الميزانية. حديثي سوف يكون مرتبطاً بقضية مجتمعية مهمة تشكل هاجساً سنوياً للجميع حيث يبرز فهم مرتبك يعبر عن وعي قاصر من جانب فئة من المواطنين لإدراك المعنى الحقيقي لإعلان ميزانية الدولة وعلاقتها بالتنمية، بالإضافة إلى ضعف مجتمعي في فهم علاقة المواطن بميزانية الدولة من حيث المعطيات والمردود المتوقع أن يتم تحقيقه لصالح المواطن. عملياً ليس هناك شك في أن مردود الميزانية على الموطن كبير ومباشر فكل ما يحصل عليه المواطن من خدمات وتسهيلات وإجراءات وتنمية وتطوير كلها تعود نظرياً وتحليلاً لحجم ميزانية الدولة ولكن السؤال المهم: لماذا لا يشعر المواطن بهذا المردود ومن يتحمل قصور الوعي بثقافة الميزانية..؟ مع أن يوم إعلان الميزانية وحملتها الإعلامية تعتبر كبيرة تستهلك معظم المواد المرئية والمسموعة والمقروءة. الطرح الرئيس للإجابة على هذ السؤال يجب أن يمر عبر فكرة الوعي وصناعته، كما انه يجب الاعتراف أن من حق الدولة أن تفخر بإنجازها الاقتصادي الكبير محلياً ودولياً وهي تستعرض سنوياً من خلال ميزانيتها إنجازاتها، وهنا يصبح من حقها أن يدرك المجتمع ذلك الكم الهائل من الجهد الاقتصادي الذي قد بذل في سبيل تحقيق أعلى معدلات اقتصادية يتم التعبير عنها من خلال أرقام الميزانية سنوياً، ويصبح إيصال هذه الرسالة إلى المجتمع بشكل دقيق مهمة جهات مختلفة في الدولة. الجزء الرئيس في مناقشة صناعة الوعي لدى المواطن والخاص ببناء ثقافة الفهم المحتمل لميزانية الدولة، ينبئ عن فهم قاصر للوظيفة التوعوية التي يجب أن تمارسها مؤسسات المجتمع وأخص أولاً مؤسسات التعليم التي يجب ألا تغيب عن بناء علاقة تنموية وثقافية مع المجتمع من خلال مقرراتها الدراسية، بلغة أقرب هناك غياب واضح بين مفهوم أنشطة المجتمع ومساراته، وبين المعرفة التي تقدم للطلاب فالمقررات الدراسية لازالت تفتقر إلى بناء جسر تعليمي مع المجتمع. البعد الآخر في صناعة الوعي يعتمد على الإعلام أيضاً الذي يقدم ميزانية الدولة كأرقام جافة تبدو للمتلقي على شكل قيم مالية فقط وليس قيماً تنموية، وهذا يفتح باباً جديداً من الأسئلة حول ضرورة ربط إعلان الميزانيات بخطط واستراتيجيات ومشروعات تنموية وتطويرية، وعلى الإعلام أن يمارس دوره في جلب تلك المشروعات والاستراتيجيات التي سوف يتم تنفيذها عبر الوزارات خلال العام اللاحق لإعلان الميزانية من مؤسسات الدولة لأن هذه القيم الرقمية غير المرتبطة بتسمية محددة للمشروعات والأهداف التطويرية المراد تحقيقها تشكل عائقاً مهماً أمام فهم المواطن المتلقي لهذه الأرقام. هناك حقيقة اجتماعية مهمة تقول: إذا أردت أن يفهم المجتمع قيمة مالية تقدمها له، فعليك تحويلها إلى قيمة مادية محسوسة يمكن تصورها وإدراكها، على سبيل المثال إذا أعلن في الميزانية عن مليارات وزارة الصحة فالقيمة الرقمية هذه لا يمكن أن تتجاوز رقماً مالياً لدى المجتمع ولكن ماذا لو ربطت إعلانات الميزانية بخطط ومشرعات صحية بعدد من المستشفيات أو الخدمات الصحية، هناك سوف يتمكن الفرد في المجتمع من فهم علاقته المتبادلة مع ميزانية الدولة وسيدرك بوعيه بهذه الطريقة حجم الفائدة التي يحصل عليها. هذا التعاطي الإعلامي مع ميزانية الدولة سيحقق مفهوماً شعبياً كبيراً فكم المشروعات التي سوف يتم تنفيذها خلال عام من قبل إحدى الجهات الحكومية، سوف يخلق مساراً للشفافية والمحاسبة؛ فالقيادة وعبر المؤسسات الحكومية عندما تختار الوزراء فهي تمنحهم الفرصة لممارسة الإنتاج الفعلي عبر استثمار إمكانات الحكومة المادية وتحويلها إلى منتج من الخدمات التي يجب أن يشعر المواطن بسهولة في كيفية الاستفادة منها. في السياسة هدف الدولة الدائم تنموياً: هو تحقيق أعلى معدلات الخدمة للمواطن وتحقيق أرقى المسارات من أجل تطوير الإنسان عبر منهجيات محاسبية وشفافة لمكونات الاقتصاد الوطني وهذا ما يحقق الاستقرار للدول وتقدمها الحضاري. فيما يخص دور مؤسسات التعليم أعتقد أنها لازالت غير مندمجة في المجتمع بالشكل المطلوب، فتقييم مؤسساتنا التربوية سواء في التعليم العام أو العالي يمكن تصنيفه على أنه يتعامل مع معطياته الأساسية وهم الطلاب من خلال مفهوم بيروقراطي وليس من خلال مفهوم ثقافي وهنا الخطأ الجسيم الذي ترتكبه مؤسساتنا فلذلك يخرج جيل يصعب عليه قراءة تحولات المجتمع سواء الصغيرة ومنها كمثال القراءة الإيجابية لميزانية الدولة. فهل هناك عدم توافق بين المكونات المجتمعية وبين الجيل الجديد..؟ خصوصاً في المؤسسات التربوية وهذا ما يساهم في تنامي الفردية ومصالحها فكلما كانت الفردية والمصالح ضيقة في المكون الاجتماعي كلما كان الحرص عليها أكثر، بمعنى دقيق، الفرد دائماً يبحث عن مصلحة فردية مباشرة على حساب فهم للمصلحة المجتمعية وهذا ما يجعل السؤال المعتاد من المواطن عندما يقول ماهي الفائدة لي من الميزانية. عنصر الفردانية لدى الفرد يرى نفسه في تلك اللحظات متشابهاً مع المكونات المجتمعية، بمعنى دقيق لدينا ارتباك شديد في فهم علاقة الفرد بالمجتمع والعكس، لذلك يتنامى الرأي الفردي بيننا في كل شيء اقتصادياً واجتماعياً وتراثياً وهذا ما خلق السؤال المستمر والدائم للفرد حول فائدته، وكنتيجة لغياب مفهوم ثقافة المجتمع فالفرد في جانب فهم الميزانية يتصور أنه يجب أن يحصل على قيمة مالية مباشرة كما تلك المؤسسات الحكومية. إن قصور الوعي المجتمعي في هذا الجانب يكشف لنا الكثير من التداخلات التي يجب أن تفصل فيه مؤسسات الدولة ولعل التعليم والإعلام هما حجر الزاوية في بناء أجيال جديدة ومتغيرة تدرك كيف يمكن بناء علاقة متبادلة مع مجمعاتها، ولعل الإعلام بنظرياته الحديثة هو المؤسسة المستقبلية لصناعة المجتمع وثقافته.