هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    رياض العالم وعالم الرياض    الرياض الجميلة الصديقة    سيتي سكيب.. ميلاد هوية عمرانية    المملكة وتعزيز أمنها البحري    مبدعون.. مبتكرون    "إثراء" يختتم أعمال مؤتمر الفن الإسلامي.. استعادة وهج الحِرف اليدوية بمشاركات محلية وعالمية    أكد أهمية الحل الدائم للأزمة السودانية.. وزير الخارجية: ضرورة تجسيد الدولة الفلسطينية واحترام سيادة لبنان    حوادث الطائرات    حروب عالمية وأخرى أشد فتكاً    التصعيد الروسي - الغربي.. لعبة خطرة ونتائج غير محسوبة    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    القوة الناعمة.. نجوم وأحداث !    صافرة الكوري «تخفي» الهلال    طائرة الأهلي تتغلب على الهلال    الاتفاق يختتم تحضيراته    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    الفيصلي يحتاج وقفة من أبناء حرمة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة حتى الأحد المقبل    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    الجموم بمكة المكرمة تسجّل أعلى كمية لهطول الأمطار ب (22.8) ملم    لا فاز الأهلي أنتشي..!    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    «إثراء» يُعيد وهج الحِرف اليدوية بمشاركات دولية    هؤلاء هم المرجفون    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    القصف والجوع والشتاء.. ثلاثية الموت على غزة    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    وزير المالية : التضخم في المملكة تحت السيطرة رغم ارتفاعه عالميًا    اكتمل العقد    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    حملة على الباعة المخالفين بالدمام    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    وزير الشؤون الإسلامية: ميزانية المملكة تعكس حجم نجاحات الإصلاحات الإقتصادية التي نفذتها القيادة الرشيدة    استقبل مدير عام هيئة الهلال الأحمر نائب الرئيس التنفيذي لتجمع نجران الصحي    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    نوف بنت عبدالرحمن: "طموحنا كجبل طويق".. وسنأخذ المعاقين للقمة    هيئة الموسيقى تنظّم أسبوع الرياض الموسيقي لأول مرة في السعودية    الجدعان ل"الرياض":40% من "التوائم الملتصقة" يشتركون في الجهاز الهضمي    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    حكايات تُروى لإرث يبقى    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأسرة والمسلمات التربوية في مواجهة التحديات المعاصرة
نشر في الرياض يوم 15 - 01 - 2009

الأسرة هي الوحدة الأولى في البناء الهرمي للمجتمع - وهي القاعدة الأساس للمنظومة الاجتماعية. وهي خط الدفاع الأول وحصن الحماية الأمين لموروث الأمة وعقيدتها والمثل العليا التي تؤمن بها. والفرد جوهر المجتمع وباني حضارته وحارس أمنه وسلامته.
منذ الأزل توثقت صلة الأسرة بالمجتمع بعقد اجتماعي، أولت فيه الأمم أمر التربية الأولية للأسرة وعهدت إليها بمهمة التوجيه والإصلاح وترسيخ القيم العليا للجيل الناشئ. منذ جاء "كونفيوشس" يهتف عالياً برسالة الفضيلة تغرسها الأسرة في أفئدة الناشئة لبناء أمة صالحة انطلاقاً من مقولته الرائدة بأن وراء كل أمة صالة أسرة مستقيمة وأفرادا أسوياء وليتردد هذا المفهوم عبر فكر فلاسفة آخرين مثل أفلاطون، ارسطو، وبرتلاند رسل وغيرهم من علماء المجتمع والتربية.
الأسرة هي الدعامة الأولى وعمود الأساس الذي يقوم عليه بناء المجتمع فإن كان الأساس قوياً ضمن قيام البناء وديمومته وإن كان هشاً والأعمدة خاوية من التسليح المتين كان مصير البناء الانهيار مصداقاً لقوله تعالى: (أفمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به) "التوبة 109".
إن نجاح المجتمع أو فشله يعتمد بالدرجة الأولى على مدى نجاح الأسرة في عملية إنتاج أفراد أسوياء يؤمنون بقيمة دورهم في الحياة ومدى تأثيرهم سلباً وإيجاباً في تطور المجتمع وتألقه.
الإشكالية أن البعض من الناس والدهماء من البشر لا يعترفون بأهمية الأسرة ومسؤوليتها في تشكيل الوعي الإنساني وتربية العقل والضمير الوجداني، لمن عهد إليهم بتربيتهم، فيلقون في مسالك الحياة وفجاجها بأفراد غير قادرين على التفاعل الجاد من المجتمع وغير مؤهلين للإسهام والمشاركة في تشييد نمائه واستقراره وربما تحول بعضهم ليكون معول هدم للمجتمع بدلاً من أن يكون أداة بناء وتطوير.
الأسرة هي المؤسسة النموذجية التي تستنبت في أرضها أصول الفكر الخلاق، وهي المسؤولة عن زرع القيم والمبادئ التي تكون وعي الفرد وتوجهاته، خياراته، قناعاته. وهي كذلك أداة وصل وتواصل بين جيل مضى وجيل قادم. وهي البيئة النقية التي يستقي منها الناشئ قواعد السلوك وأنماط التعامل الصحيحة، وقيم المحبة والتسامح والتماسك الأسري وصفاء العلاقات وتآلفها.
الأسرة في العالم تعايش وضعية معقدة من التحولات الكبرى الحادثة في صلب الحياة الإنسانية المعاصرة، وهي بالتالي تواجه فيضاً متدفقاً من التحديات المصيرية، التي تنأى بها عن دورها الإرشادي والتوعوي الفاعل في زمن يختنق بتحولات العولمة والميديا وثورة الثقافة والمعلوماتية. لقد أثرت صدمة التغير على الأسرة فوضعتها في حالة احباط واهتزاز وتصدع، احاط بكيانها وأدوارها ورسالتها الأساسية في توجيه الجيل وتربية النشء وبناء الأمة والإنسان على مدارج الفعل الحضاري مما نتج عنه بأن تشارك في عملية التعليم مؤسسات غريبة عن المجتمع. لقد أدى تكاثر هذه المؤسسات التي تسحب من الأسرة بعض ما كان لها من مهام، إلى زيادة تعقيد مهمة الأسرة المسلمة ووضع على عاتق الوالدين عبئاً ثقيلاً، وجعل مهمة التعرف على الطرق المناسبة للتربية مهمة في غاية الصعوبة، خصوصاً وأن اتساع الفجوة بين الأجيال ازداد بسرعة فائقة. لقد تقدمت المعلومات والمعارف بسرعة مذهلة مما جعل معارف الكبار تبدو قديمة وغير مناسبة لمتطلبات العصر وتطلعات الشباب(1).
كما أصبح من الصعوبة بمكان، السيطرة التربوية على الأبناء في ظل الظروف المعاصرة والإمكانات التقنية، واستشعاراً لأهمية الأمر وخطورته فقد أعلن في كل من جنيف ومكسوسيتي وبراغ إلى الالتزام بحماية الأسرة من عوامل عدم الاستقرار باعتبارها حجر الزاوية في المجتمع وبانهيارها ينهار المجتمع.
إن الدلائل كافة تعلن صراحة أن البشرية تتجه الآن وبسرعة رهيبة إلى عالم مختلف غريب، مثير وبالغ الخطورة، في الوقت الذي تتكثف فيه الدعوات المنادية إلى ضرورة تنشئة الأطفال على أسس تتمشى مع القيم والثوابت والمثل العليا التي تؤمن بها الأمة، وإنتاج مواطنين تمتد جذورهم في ثقافتهم الخاصة، وملتزمين بتقدم المجتمع والمشاركة الفاعلة في مسار انطلاقة نحو غاياته الحضارية.وبقدر ما نضع حدوداً لطرائق التفكير والتخيل التي تجعل من السلوكيات ضرباً من ضروب التصرفات التي يحكمها منطق التعقل والتنظيمات الاجتماعية التي تعمل معاً لتحقيق مجتمع الرفاهية والرخاء لجميع الطبقات الاجتماعية، وبالرغم من الأشواط التي قطعها المجتمع على بعض الأصعدة تظل العائلة المسؤولة عن قواعد السلوك وأسس التعامل في المجتمع سلباً أو إيجاباً، الأمر الذي تبدو معه حاجة المجتمع الماسة للتغيير، فهو الأكثر تضرراً داخل المشهد الثقافي، والواقع الذي يرجع في جزء منه إلى ممارسات خاطئة أضرت بالأسرة نفسها حتى إن هناك مجموعات ديموغرافية تتحرك على وتيرة واحدة للتهرب من مسؤولياتها وقد أثبتت التداعيات المترتبة على زيادة الجريمة والانحراف، بسبب غياب الآباء وتنصلهم عن مسؤوليتهم.
الحقيقة البارزة التي لا تغيب عن الأذهان أن حياتنا الاجتماعية قد عانت تغيراً قوياً وأساسياً، فإذا أريد لتربيتنا أن تحتوي على معنى للحياة أيا كان، فعليها أن تجتاز تبدلاً شاملاً وتغييراً في جو الأسرة الأخلاقي، وتقديم عوامل أكثر فعالية وتعبيراً، وتوجهاً صادقاً للذات، وهذه ليست عوامل دعائية أو تحسيناً للمظهر العام، أو أحاديث مناسبات، بل هي ضرورات حتمية لتطور إنساني أعظم.
لقد أدى انفراط عقد التربية الأسرية نتيجة للتغيرات التي صاحبت العولمة إلى ظهور أنماط تربوية من قبل الآباء تجاه أبنائهم أخطرها المواقف السلبية التي تصدر من الآباء في تربية أبنائهم، منها على سبيل المثال، الاغداق المبالغ فيه على الأبناء بطريقة تتسبب في مسخ شخصية هؤلاء الأبناء وعدم تقديرهم للمسؤولية وتعودهم على التسيب واللامبالاة وربما التهور في بعض الأحيان، فعندما يحصل المراهق الصغير الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره على سيارة من والديه وبتخويل رسمي منهما، إنما يدل على قصور كبير في معرفة أسس التربية بين معظم الآباء والأمهات فالأغلبية يعتقدون أنه من الطبيعي جداً أن يمتلك أبناؤهم وبناتهم جميع أنواع الكماليات في مثل هذه الأعمال وإلا فإنهم سيتهمون بالتقصير في حقهم، ولكنهم يتفاجأون عندما يكتشفون أن "عدم تقصيرهم" في حق أبنائهم قد دفع هؤلاء الأبناء إلى الخطأ والجريمة والانحراف وأسوار السجون، المشكلة الحقيقية ليست فقط في سهولة حصول الابن على الأشياء الثمينة والنفيسة والمال الوفير، وإنما أيضاً في غياب من يتابع ويراقب أو يضبط عملية استخدام كل هذه الأشياء، فيعرف أنه مهما تمادى وأساء الاستخدام فليس هناك من سيحاسبه، الأمر الذي قد ينجم عنه الكثير من المشاكل والمآسي التي تنعكس على أسر بأكملها.
وشكل آخر للتربية يسلك فيه المربي طريف العنف والتشبث بالرأي في تربيته للأطفال، بأن يفرض عليهم آراءه القاسية التي لا تروق لهم مما يفقدهم الإحساس بالذنب والشعور بالكرامة، فتموت في أعماقهم كل البواعث الطيبة ولا ينمو فيهم إلا شعورهم بالضعف والذل والهوان، والإحساس بالمرارة والبؤس والعجز والفراغ. فمن يتربى بأسلوب العنف والقسوة والتهديد والوعيد والحرمان كثيراً ما تكون نفوسهم مفعمة بمشاعر القهر والإحباط والدونية والانتقام، ومما يدفع بهم إلى ارتياد طريق الخطأ والضياع، واللجوء إلى العنف والتمرد حين تغلق في وجوههم الأبواب، ويحسن في أعينهم أنواع من السلوك غير السوي الذي يسيء لأنفسهم والمجتمع، كما تدفع القسوة في تربية الأبناء إلى اللجوء إلى الكذب والخداع والمكر، وتحبيذ اللهو والعبث واللامبالاة، كثورة نفسية على الأسلوب التعسفي والمعاملة القاسية. وقد حذر مفكرنا العربي ابن خلدون من هذه القسوة في التربية إذا قال: "إن من سطابه العنف والقسوة من أصاغر الولد والخدم فإنه يلجأ إلى الكذب والمكر والخداع". هناك الكثير من الأطفال الذين يسلكون سلوك المنافقين بسبب صرامة لغة أهاليهم معهم فهم يمتثلون لما يؤمرون به على وجه تام لكنهم في دواخلهم يرفضون كل ذلك، وحين تتاح لهم الفرصة يعملون عكس ما أمروا به.
الأصل ألا يصدر المربي الكثير من الأوامر والنواهي فالتربية التي تقدمها الأسرة عمل إنساني يرسخ شعور الأطفال بالأمان والحب والامتنان، ويغرس روح التفاهم والتناغم بين أفراد الأسرة الواحدة، وتربي فيهم معرفة ما ينبغي عليه عمله وما ينبغي تركه، بأسلوب الحوار والايحاء والبرهنة، الأمر الذي يجعلهم يتصرفون وفق ما هو مطلوب عن قناعة تامة ويقين بحكمة الكبار وصواب رؤيتهم. وهذه الطريقة تضمن بناء العقلية السببية لدى الأطفال، وهي ربط الظواهر وأسبابها والنتائج ومقوماتها كما يعزز لديهم الرؤية المنطقية والمنهجية ومعرفة مفردات الوجود في إطار من الترابط والتعاضد، يستطيع الوالدان المتسلحان بالمعلومات والمعارف العصرية أن يدركا الفرق بين الحب والعطاء، والمنع والتقتير، الإسراف والتبذير، وأن هناك خطوطاً فاصلة بينهم، وأن الإسراف في العطاء يتساوى سلباً مع التقتير والحرمان، وأهمية الموازنة بين ذلك في حدود الإمكانيات والمعقول وتوجيه الناشئة لمعرفة هذه الفروق واستلهامها وأن يوضحا كذلك لأبنائهما وخصوصاً الذكور مخاطر الغواية والرفقة السيئة والمخدرات والتطرف، لا شك أن التربية الدينية من شأنها أن تسلح الصغار بالتحصينات السليمة بالنسبة لتلك المسائل التي وردت فيها نصوص واضحة وصريحة.
لو تهيأ لنا أن ندرك غاياتنا وهدفنا التربوي ومسؤوليتنا تجاه من أوكل إلينا مسؤولية تربيته بأسلوب أقل تفريطاً وطريقة أكثر التزاماً، لوجدنا أن الأسرة قائمة على أصولها تؤدي واجبها غير منقوص.
أن يقظة ضمير الأمة لا تأتي من الخارج، ولا تملى بوصاية أجنبية، وإنما تنبع من داخل المجتمع وتبزغ من ثراه مستمدة قوتها وينعها من قيمه وغاياته الكبرى.
نحتاج في أيامنا العصيبة هذه إلى قدرة من الحكمة، وعمق في الرؤيا، التي ترسخ مفهوم الوعي الأسري، في كنف مجتمع طموح للتقدم، مستشرف للندية والمساواة مع أقطاب العالم.
(1) محمد التير - الأسرة في عالم متميز - دار الشروق - ص
86.لقد علمتنا الحياة ووقر في وجداننا ما نصت عليه مبادئ الحكمة وأسس الرأي المستنير بأن القيم هي قدر الأمة وصنيعة سلوكهم وأفعالهم ولم يصدق هذا القول بقدر ما يصدق الآن بعد أن أثبتت لنا تقلبات الأحداث والوان التغير والاختلاف وسقطات الانهيار الأخلاقي الأممي، بأن القيم يمكن أن تعني الشيء ونقيضه فهي إما أن تكون مصدراً للسمو والرفعة، أو الانحطاط إلى أسفل سافلين، إما أن ترقى الأمم بقيمها فترقى بهم، وإما ينحطون بها فتنحط بهم.
ليست المشكلة أنه يجب على الأسرة أن تسهم في تنشئة الجيل الجديد فقط، ولكن المشكلة أن تقوم به مع أكثر قدر من الذكاء والتبصر، والحكمة والتعقل، تنشئة تؤهل الطفل لنمو حر يحقق الاستجابة لمطالب التغير الاجتماعي وتحدياته، وان تكون رائدة لمواجهة التغير والتجانس معه وفق ثوابتها ومعتقداتها.
إننا لا نحتاج إلى إنقاذ جيل مضى بل نحتاج إلى تعزيز وتطوير ومستقبل أمة آتية وطرح نوع من الفكر المتأمل، والرؤية المتعمقة، والتنبؤ الحسي الدقيق، بالاحتمالات الممكنة للنجاح أو الفشل وسلوك السبل السليمة التي تكفل تحويل التحديات الضخمة التي ستواجه جييل المستقبل إلى فرص عالية للنجاح والتفوق علاوة على منح الأبناء القسط الوافر من مشاعر الحب والعطف التي اعتبرها (ماسلو) أحد الاحتياجات الأساسية للنمو السليم والمبدأ الأساس الذي تقوم عليه تربية الطفل تربية صحيحة خالية من الأمراض النفسية والإعاقة الفكرية ويؤكد ذلك فيما ثبت عن النبي (صلي الله عليه وسلم) من حبه للحسن والحسين وملاطفته وتقبيلهما. ودخل عليه مرة الأقرع بن حابس فوجد النبي (صلى الله عليه وسلم) يقبل الحسن والحسين فقال للنبي (صلى الله عليه وسلم): إن لي عشرة ما قبلت واحداً منهم فغضب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى التمع لونه، وقال للرجل إن كان الله قد نزع الرحمة من قلبك فما أصنع بك؟ من لا يرحم صغيرنا ولا يعزز كبيرنا فليس منا. " رواه البخاري ومسلم".
تحتل القيم مكانها كجزء من البناء الفوقي في التكوين الاجتماعي للأمة وترتبط ارتباطاً مباشراً بمنظومة الأسرة والبيت والعلاقات السائدة فيها.
إن الأسرة العربية المسلمة مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى بإعادة النظر في مسلماتها التربوية، الثقافية، والأخلاقية، وانتهاج اسلم الطرق، وأنجح الوسائل الكفيلة بتوجيه أبنائنا التوجيه الصحيح، وإلتزام الأسرة بواجباتها "وتواجد الآباء الدائم والمستمر" على قمة البناء الأسري، والذي يعد أساس القوامة، كما يشكل المرجعية المعيارية للمنظومة الاجتماعية المعاصرة والذي تحول في النهاية إلى نمط من "العقد المقدس" الذي تنص عليه كل دساتير العالم، كما يشكل الإطار الموجه للتشريعات والنظم القانونية التي تطرح بخصوص "واجبات الأسرة" ولقد قال النبي "صلى الله عليه وسلم" كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته".
لا شيء يبرر للأهل ترك الأبناء بدون رعاية وتوجيه، أو ممارسة التسلط وفرض الرأي عليهم، أو تعطيل الحوار وتهميش آرائهم وإزدراء أفكارهم والتنشئة الاجتماعية تقوم على التوافق النفسي والاجتماعي السوي للأبناء غير أن فشل الوالدين وعجزهم عن أداء هذا الدور يؤدي إلى تعطيل نموهم النفسي والوجداني كما يفضي إلى حالة من التفكك الأسري والتصدع العائلي فقد بينت الدراسات أن معظم الجانحين الذين ينحدرون من أسر متصدعة لا يحبون أباءهم ولا يثقون بهم ولا يشعرون بالارتياح معهم، وفيما يتعلق بأسلوب تعامل آبائهم معهم فقد أشار الجانحون بأنه تصرف يسوده الإهمال، أو القسوة الزائدة، والتذبذب في المعاملة وعدم الاكتراث لسلوك ابنائهم. كما بينت الدراسات كذلك ان حوالي (73%) من هؤلاء الجانحين يقضون جل أوقاتهم في الشوارع وأن حوالي (87%) يتأخرون في العودة إلى المنزل ليلاً وأن حوالي (58%) منهم يقضي الليل خارج المنزل لعدة أيام دون إبلاغ الوالدين. ولدى مقابلة الوالدين تبين أنهم لا يعرفون شيئاً عن سلوكيات ابنائهم أو أنهم يعرفون ولا يريدون التشهير. كما تبين أن (88%) من هؤلاء الجانحين كانوا قد تعرضوا لأساليب معاملة والدية قاسية يسودها العنف والحماية الزائدة التي تصل الرقابة فيها إلى حد التقييد الزائد للحرية، أو حد الإهمال والسلبية.
وقد دعا مؤتمر الأسرة العربية المنعقد بالكويت في نوفمبر 2008م الحكومات العربية إلى سن قوانين لحماية الأسرة وأبنائها من ظاهرة العنف الأسري. وكذلك تبصير الآباء والأمهات بمراعاة المسؤولية الملقاة على عاتقهم بتربية هذا الجيل وأن يكونوا القدوة الحسنة لأطفالهم للوصول إلى جيل راشد قادر على تحمل المسؤولية (مؤتمر الأسرة العربية. الكويت 2008/11/11م) (2).
بما أن الأسرة تعيش تحديات عصر له تطلعات ووثباته العلمية، وبما أن عصر العولمة قد اقتحم العالم وأدى إلى تعقد فعاليات الحياة وعمق مشاكلها مما أثر تأثيراً واضحاً في تأزم نفسيات الجيل في مرحلة الشباب التي هي فترة التطلعات والآمال عند الإنسان الأمر الذي يستدعي ايجاد سياسة قومية لرعاية الشباب وحمايتهم، والأخذ بأيديهم إلى أفق مفتوح ومجال فسيح أمام رغباتهم وأمانيهم، وأن توفر لهم فرص التقدم العلمي والعملي وأن تتيسر لهم سبل تحقيق مطالب الحياة وبناء المستقبل ومدهم بالتوجه الراشد والدعم القوي الذي يدفعهم إلى إطلاق قدراتهم وشحذ هممهم للعمل المتقن والتدرب على تحمل المسؤوليات (مؤتمر الأسرة في القرن الحادي والعشرين") (3).
على الأسرة تجنيب الشباب مشاعر الغبن والأسى والحرمان بإنسداد الأفق أمام طموحاتهم، وتعذر تحقيق رغباتهم المشروعة وأمانيهم واحلامهم، واخراجهم من حالة العزلة والقلق والتذمر والشعور بالإحباط.
على الأسرة أن تعي جيداً بأن طاقات الشباب تأبى على الكبت وترفض الجمود وإذا لم تجد أمامها المنافذ المشروعة لتفريغ الطاقة في منصرف نبيل، ولم تفتح أمامها البدائل المناسبة لممارسة الحركة والنشاط، واستثمار الجهد البشري المتوثب في عمل مفيد، فإنها ستتجه إلى الطريق الخطأ، ومخالفة القانون، تحتاج الأسرة إلى الانفتاح على الشباب وتجسير العلاقة معهم، ومع المؤسسات التربوية لمساعدتهم على تجاوز المرحلة الحرجة التي يمرون بها.
الشاب الناشئ كما يقول د. محمود سفر (4) "صاحب قلب رقيق وفؤاد غض وعاطفة جياشه وحماس شديد لا يربط انفعاله رباط ولا يسيطر على تفكيره مسيطر" فلذلك يجب على الأسرة أن تغير أسلوب الخطاب التربوي والتوجيهي مع الشباب في هذه المرحلة التي يحفل فيها المشهد الثقافي بمختلف أساليب الحوار المتعددة التي تخاطب الحس الوجداني والعاطفي، ولذلك فهم لا يستهويهم التخاطب الفوقي، وأسلوب الأمر والنهي والردع والزجر، والاسترسال في ذكر النصوص والأقوال، ومصادرة حق الاعتراض والتساؤل، وكعلاج لهذا الأمر فقد نصت مقررات مؤتمر القمة العربية المعقود بالجمهورية السورية على معالجة ظاهرتي اللامبالاة والاغتراب من قبل الوالدين تجاه أبنائهما، التي تحد من المشاركة الفاعلة للشباب، ووجوب قيام الوالدين بتمكين الشباب وتحفيزهم على المشاركة في الأعمال التطوعية، ونشر ثقافة التطوع في صفوفهم وإتاحة الفرصة لهم بالاستمتاع بأوقات فراغهم واستثمارها بشكل إيجابي من خلال النشاطات الثقافية والفنية والأدبية والرياضية، تدريس الشباب كذلك على المهارات الإعلامية المختلفة كصيانة الأخبار، إعداد التقارير والتحقيقات الصحفية، وذلك بانخراطهم في العمل الإعلامي تطوعاً، بغية تمرسهم بالعمل الإعلامي وإلمامهم بالدور المهم المنوط بوسائل الإعلام المختلفة، وتوعيتهم بحقوقهم وواجباتهم. كما نصت أيضاً على ضرورة إيلاء الشباب أهمية خاصة من خلال إشراكهم في الخطط والبرامج والمشروعات المتعلقة بقضاياهم وتزويدهم بالمعلومات والمهارات الضرورية ومساعدتهم في إتخاذ القرارات المتعلقة بهم والاستعداد لأخذ المبادرات الخلاقة والاضطلاع بواجباتهم الوطنية. (مقررات مؤتمر القمة المنعقد بدمشق لرؤساء الدول العربية في 29مارس 2008م) (5).
تؤكد سيرورة الأحداث وإيقاع الزمن المتواتر، بزوغ فجر جديد متخم بالمتغيرات الكثيرة والمتنافرة التي فرضت سطوتها سلباً على ساحات الفكر ومؤسسات التعليم وتدافعت أعاصيرها وتطاير شررها في أفق المعرفة مخترقة حجب الوعي العربي الإسلامي ومخرجاته القيمية.
إن غوغائية الفتنة لا كوابح لها، وملوثات التكوين الفكري لا ضمير يردعها، ولهذا أصبح على الأمة العربية واجب تكريس جهودها وفكرها للنظر في ماهية الفكر الدخيل وأنسب الطرق لمقاومته وصد سيطرته على وعي الأمة ومحاولاته المستمرة في تهميش الإنسان العربي وإدخاله في عصر رق جديد وتكبيله بأيدلوجية غريبة ودخيلة.
ويؤكد ذلك ما جاء في كلمة "خادم الحرمين الشريفين" في مؤتمر مكة المكرمة الذي بين فيها (أن الإسلام صوت تعايش وحوار عاقل وعادل في مواجهة تحديات الانغلاق والجهل وضيق الأفق، والغلو والتطرف، وأن الطريق للآخر يكون من خلال القيم الأخلاقية السمحة التي تعزز خير الإنسان ومحاربة الخيانة والجريمة، وتعزز مفاهيم وقيم الأسرة "التي جار عليها هذا العصر "وتفككت روابطها بابتعاد الإنسان عن ربه وتعاليم دينه" (جريدة الحياة في 2008/6/5م).
لقد احاطت بالناشئ حالة الجفاء المادي، لتنتزع منه جوهر إنسانيته وتجفف ميوله الخيرة وتطلق العنان لأنانيته ونوازعه العدوانية وهو مؤشر خطر وجرس إنذار يدعو إلى ارتقاء الأسرة إلى مجالات أرحب من الروابط الإنسانية الراشدة وتوسيع مساحة الحوار مع الأبناء، واحترام وجهة النظر والرأي الآخر، وترسيخ ميثاق الحب والود، الذي يسمو بالمنزل والمجتمع إلى أوج التسامح، وقمة العلاقات الأسرية المثالية.
--------------------
(1) محمد التير - الأسرة في عالم متميز - دار الشروق - ص
86.(2) مؤتمر الأسرة العربية. الكويت 2008/11/11م
(3) مؤتمر الأسرة في القرن الحادي والعشرين. (المؤتمر الثامن للإرشاد النفسي - جامعة عين شمس. القاهرة 2003م
(4) د. محمود سفر الإسلام وأمريكا - دار النفائس - بيروت 2004م
(5) مؤتمر القمة المنعقد في دمشق لرؤساء الدول العربية 29مارس 2008م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.