تقول كاتبة إنجليزية اسمها (كارين ارمسترونغ) في كتابها والمعنون ب (موجز في تاريخ الإسلام) «لم يُسأ فهم دين في التاريخ المعاصر كما أُسيء فهم الدين الإسلامي» وترى أن «القرآن الكريم منح المسلمين مهمة تاريخية، تتمثل في خلق مجتمع عادل يحظى كل أفراده بنفس القدر من القيمة والاحترام، نعرف أن هناك تصورات ملتبسة لدى الغرب حينما يدور النقاش حول بعض المفاهيم والمصطلحات وتحديداً عن مفهومية التفرقة في المجتمعات الإسلامية ما بين الثوابت الدينية من جهة، وبعض العادات والتقاليد والأعراف من جهة أخرى. وهذا يعود في تقديري إلى كونها تنطلق من انطباعات ذاتية ليست بالضرورة موافقة للحقيقة، وربما أيضا تشكلت من مواقف شخصية أو من التقاط معلومة غير دقيقة فضلا عن دور بعض الوسائل الغربية التضليلي والتي لها مواقف او اجندة معينة ما ساهم في ترسيخ صور نمطية محددة. وفي هذا السياق أيضا ثمة أمور لا زالت غير واضحة المعالم في العقلية الغربية، وهي التي تطرح أفكاراً تنويرية، إلا أن الإشكالية تظهر حينما لا يقدر على التمييز في نوعية الطروحات مع المسلمين، أو مع الدول التي تطبق الشريعة تحديداً، فعندما يتعلق الطرح بقضايا تمس العقيدة أو الانتماء والهوية، فإن النتيجة تكون سلبية، رغم ان احكام القضاء تُحترم في كل دول العالم يسندها في ذلك المواثيق الدولية. كما ان حساسية الموضوع تتعلق بطبيعته فالطرح ليس اقتصادياً أو سياسياً، بل أكبر من ذلك، ويدخل في صميم القناعة الذاتية، ولذلك فقد يجلس السعوديون مع الغرب في نقاش حول كل المسائل، وقد يتفقون او يختلفون، إلا أنه من الاستحالة بمكان أن تكون القضايا الدينية (كإلغاء عقوبة الإعدام مثلا) ذات التأصيل الشرعي والنصوص الصريحة القطعية تحديداً تدخل ضمن هذا النقاش. وهنا تكمن حقيقة (مفهوم المرجعية) التي تحدد المفصل الجذري في المنشأ العقائدي والفكري لهذه الثقافة أو تلك، فالعقلية الغربية ترى وجوب الفصل ما بين الدين والدولة (العلمانية) لاعتبارات ليست مثار نقاشنا، في حين ان المسلمين (السعوديين تحديداً) يرون انه ليس ثمة انفصال بينهما، فالدين يشمل (الكل) والدولة جزء ينتمي إلى هذا (الكل)، ولذلك نخلص من هذا بالقول ان المرجعية الإلهية (النص القرآني) تختلف عن المرجعية الوضعية (الفعل الإنساني). وعلى ذلك يمكن القول إن (الثوابت) في المجتمعات الإسلامية، لا سيما تلك التي تطبق الشريعة في شتى مجالاتها، تجدها واضحة، فهي تستند إلى الثابت (القرآن والسنة) وتحاول ان تتعصرن مع الجديد، فتضيف إليه مكتسبات بشرط عدم تعارضها مع الثابت، في حين أن المجتمعات الغربية لا تعرف إلا المكتسب (بسبب المرجعية) ولا تعطي اهتماماً للثابت (الاديان) فيضعف أو يكاد يتلاشى، أو ربما يطرأ عليه شيء من التجديد والتغيير (من باب التحديث). وان كان المقام هنا ليس للهجوم أو الانتقاد أو التقليل من قيمة الآخرين وطبيعة اختياراتهم بقدر ما هو محاولة لتوضيح مفهوم اختلاف المرجعيات، وبالتالي عدم تطابق إفرازاتها ونتائجها. على ان خروج أصوات متطرفة بقوة في الساحة تهاجم الأديان السماوية سيؤدي بطبيعة الحال إلى تعزيز التطرف وتفاقم التعصب، ما يعيق أي محاولات لردم الفجوة ولذلك فدور العقلاء في العالمين الإسلامي والغربي مهم لاسيما في الوقت الراهن ويجب ان يرتقي الى مستوى المسؤولية بشجب تصرفات وطروحات البعض وتبني مبادرة بتجريم ازدراء الاديان لقطع الطريق عليها من إذكاء الصراع ما بين الإسلام والغرب، وهو ما سبق ان طالبت به السعودية لأنها على قناعة بأن ما يجمع الغالبية العظمى من شعوب العالم هو أكثر مما يختلفون عليه. طبعا لا أحد ينكر ان تركيبة النظام الغربي الذي يمتلك ميزة التوازن، وأعني بهذا طبيعة النظام المؤسسي واستقلالية السلطات والنزوع إلى الشفافية والمكاشفة في ظل نظام مُقنن، إلا أن هذا لا يعني أن الغرب يمتلك الحقيقة المطلقة او الوصاية على الاخرين وان التميز الذي يعيشه يجب ألا يعطيه ذلك الإحساس الذي يشعره بالفوقية ويجعله يعيش حالة من الشوفينية الممقوتة. وتحضرني هنا عبارة للراحل الكبير الملك عبدالله بن عبدالعزيز حول الحوار بين الحضارات سبق ان ألقاها في هيئة الأممالمتحدة، حينما قال (إن هذه الحقوق (حقوق الإنسان) والمبادئ توجد في أعماق كل الحضارات، لا يصح النظر إليها بمعزل عن الحضارة التي نشأت منها، كما أنه من الصعب أن نفرض على إنسان أو مجتمع مفاهيم ترفضها مبادئه وأخلاقه). لقد درجت منظمات حقوقية في الغرب بالتدخل في احكام قضائية صادرة في المملكة بل ووصلت بها الحال للتهكم على النظام الجنائي والمبالغة في تصوير الإجراءات الجنائية بالإضافة الى اوصاف متعسفة للعقوبات لدرجة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام، ويتزامن ذلك مع محاولات جادة لإلغاء عقوبة الإعدام من قبل الاتحاد الأوروبي الذي يكرس جهده لتحويل مشروع ليصبح قانوناً ملزماً يدعو فيه الدول أعضاء الأممالمتحدة إلى إسقاط عقوبة الإعدام باعتبارها وفق تصورهم انتهاكاً لحقوق الإنسان. وليس من جديد في القول إن «الإعدام» المحدث في الغرب يختلف عن مصطلح «القصاص» الذي أقره الإسلام، فالأخير تأصيله شرعي إلهي محدد بنص صريح وجوبي وقطعي، بينما الأول وضعي إنساني متغير تبعا للظروف وبرامج الاحزاب، وبالتالي كنت ولا زلت اردد ان دعوى الناشطين في الغرب تتعارض وبشكل صريح مع مبادئ القانون الدولي، التي تعطي الحق السيادي لكل دولة في أن تصوغ نظامها الجنائي والقانوني مع ما يتفق مع أمنها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هذه الدعوى بإلغاء عقوبة الإعدام تتعارض مع مبادئ حماية حقوق الإنسان، إن اتفقنا مبدئيا على حرية اختيار العقيدة، وطالما آمنت بعقيدة ما عن قناعة ورغبة، فهذا يعني تطبيق ما نصت عليه هذه العقيدة والعقوبات من الأوامر التي يجب تطبيقها في حالة توفر شروطها (التشريع الجنائي الإسلامي كمثال) ومع هذا فإنني أؤمن ب (عالمية حقوق الإنسان) وإن اختلفت المرجعية، فبرغم أن الفكر الغربي يرتهن إلى العقلانية في كل شيء، إلا أن الفكر الإسلامي لا يعارض ذلك التوجه طالما لا يتعارض مع حرمة «النص». فتطبيق عقوبة الإعدام تكريس لمفهوم العدالة في ظل المفهوم الإسلامي بينما يرى (البعض) في الغرب انها تنتهك حقوق الإنسان، فالخلاف حول مفهومية (العدالة) النسبي، ولك أن تعود إلى المرجعية لهذا الفكر أو ذاك لتصل إلى فلسفة هذا الطرح وسبب تميزه عن سواه. تقول كاتبة إنجليزية اسمها (كارين ارمسترونغ) في كتابها والمعنون ب (موجز في تاريخ الإسلام) «لم يُسأ فهم دين في التاريخ المعاصر كما أُسيء فهم الدين الإسلامي» وترى أن «القرآن الكريم منح المسلمين مهمة تاريخية، تتمثل في خلق مجتمع عادل يحظى كل أفراده بنفس القدر من القيمة والاحترام، وان خبرة تأسيس مثل هذا المجتمع والعيش فيه منحت المسلمين جوهر الحياة الدينية وهذا يعني ان شؤون الدولة لا تنفصل عن الشؤون الروحية عند المسلمين». وفي حديثها عن العالم الغربي وفصله الدين عن السياسة تقول بأن «هذه النزعة الدنيوية، اتخذت من قبل فلاسفة عصر التنوير كأساس لتحرير الدين من فساد شؤون الدولة وتركه ليكّون ذاته، وأن يبقى أكثر صدقاً من أي شيء آخر». ومع ذلك فهناك مفارقة بين مفاهيم حقوق الإنسان العالمية وبين أساليب بعض دول الغرب التي تتمظهر بشكل سافر في الانتقائية وتطبيق المعايير المزدوجة، حيث ينكشف هذا الخلل عندما تمارس هذه الحقوق داخل بلدانها، في حين أنها تضرب بها عرض الحائط عندما تتعامل بها خارج بلدانها أو تمارسها مع الغير. الغرب يتكلم لغة مختلفة حين يأتي الأمر على حقوق الشعوب المسلمة فضلا عن ممارسات إسرائيل المجرمة مع إخواننا الفلسطينيين. صفوة القول: احترام أحكام القضاء أيا كانت ضرورة باعتبارها السبيل لتحقيق العدالة، واستقلالية القضاء يدخل ضمن سيادة الدولة، فضلا عن ان مبادئ القانون الدولي والأعراف والمواثيق الدولية تمنع التدخل في شؤون أي دولة مستقلة، ومع ذلك تظل إشكالية الغرب المزمنة في صراعه ما بين القيم والمكاسب، وهو تناقض فاضح إن أردنا الحقيقة. 1075