اتسمت العلاقة بين الدعوة والدولة في بعض البلدان الإسلامية بالتنافر حينا والتصادم أحيانا أخرى ، فكم من مؤسسة دعوية انتقدت مؤسسة للدولة ، ساهم في ذلك عدم وضوح التصور الإسلامي للعلاقة بين الدعوة والدولة ، و ماهية الوجبات التي من المفترض أن تقدمها الدعوة للدولة والعكس، ولماذا اتسمت العلاقة بينهما بالتوتر ، وكيف يتم تجاوزه لنقدم أنموذجا عمليا يتطابق مع التصور الإسلامي للعلاقة .كل هذه الأسئلة وغيرها طرحناها على الدكتور على بن عمر بادحدح ، عضو هيئة التدريس ، بجامعة الملك عبدالعزيز ، والمشرف على موقع إسلاميات ، فكان لنا معه هذا الحوار . بداية ، ما هو التعريف الذي تراه مناسبا لمفهومي الدعوة والدولة ؟ تعريف مفهوم الدعوة واضح من دلالة الكلمة ، فالدعوة بمعنى الدعاء وهو الطلب أو الترغيب في الإسلام وأحكامه وشرائعه وآدابه ، ومن مفهوم الدعوة نرى إنها جانب تعريفي وإثباتي وترغيبي لا يتجاوز ذلك إلا ما هو فوقه مثل الإكراه أو الإرغام . هل للدعوة مؤسسات ؟ الدعوة واجب كل مسلم وإسهام كل فرد، وهي ليست محصورة في دوائر معينه، إلا أنها تكون واجبه في حق من لدية العلم، كالعلماء والفقهاء ، وبحق من لديه سلطة كالحاكم و ولى الأمر . مفهوم الدولة وماذا عن مفهوم الدولة ؟ مفهوم الدولة واسع ومر بأطوار متدرجة ، وتعتريه الكثير من الإشكالات ، ولكن باختصار أقول أن تصور الدولة الحديثة بدأ يتبلور في القرن السادس عشر ، عندما انتهت الدولة الإلهية أو الثيرقراطية ، وشرعت المجتمعات في تشكيل تجمعات مختلفة إلا أن جاء ما يسمى بالثورة الفرنسية وبلورة صورة معينة للدولة ، ومن هذه المراحل نستطيع أن نقول أن الدولة هي الكيان السياسي القانوني الذي ينظم شعبا أو مجتمعا معا على رقعه من الأرض بسيادة يسودها القانون وتحمى فيها الحقوق ويتم فيها رعاية المصالح . دين شامل كيف تنظر للعلاقة بين الدعوة والدولة ؟ بداية ، لابد من التأكيد على أن الإسلام دين شامل فهو منهج دين ودولة ، وهذا الشعار وان كان واضحا في لغته يعتريه عند الناس تجاذبات كثيرة ، لكننا بسهولة وببساطة نرى في سيرة النبي الكريم النموذج ، فالرسول بدأ داعيا وظل 13 سنه يدعو في مكة ، وكانت تلك الدعوة تمهيدا لقيام الدولة ، حيث هيئت الدعوة الأسباب وأعدت الأفراد و أوجدت الأرض التي استقبلت ورحبت وحينئذ قامت الدولة . إذا كانت الدعوة سببا في قيام الدولة فماذا فعلت الدولة تجاه الدعوة ؟ الدولة أصبحت حاضنة للدعوة وحامية لها وناشرة لها ، وهذا يشير إلا عدم وجود صراع أو توتر وإنما نوعا من التكامل الحقيقي . الدعوة قائمة هل يعني زوال الدعوة بقيام الدولة؟ لا أبدا ، وجود الدولة لا يعني انقطاع عمل الدعوة ، بل لابد أن تبقى الدعوة قائمة وتمثل الجزء الأكبر من عمل الدولة ، حيث تتوجه الدعوة للدولة بالنصح والتذكير ، كما أن الدولة تتوجه للدعوة بالتحفيز وتوفير الأسباب والتقويم ، وأعود فاكرر أن العلاقة بينهما تكاملية . كيف ترد على من يقول أن هناك خلاف بين هذه العلاقة؟ القران الكريم به نصوص واضحة تشير على تلك العلاقة ، كقوله تعالى «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة واتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر ولله عاقبة الأمور « فإقامة الدولة مرتبط بإعلاء شأن الدعوة ، وهناك نصوص أخرى أيضا كقوله تعالى «إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا « ، حيث ذكر أهل العلم أن هذه الآية تشير إلى أن الله جمع لرسول الله مابين قوة الحق الذي جاء به ، وقوة السلطة التي طبقت هذا الحق ودعت إليه ، و هو أمر لم يتسنى في الرسالات السابقة ، حيث كانا موسى وعيسى عليهما السلام دعاة للحق ،لكنهما لم يقيما دولة ومجتمعا . نماذج هل هناك نماذج في تاريخنا الإسلامي حول تكامل العلاقة ؟ كثير ، خذ مثلا السلطان صلاح الدين الأيوبي ، الذي خاض قبل معركة حطين ثلاث معارك ، حيث كانت الأولى علميه عقدية نشر بموجبها المدارس العلمية والشرعية في بلاد مصر والشام وأزال اثر الرفض والانحرافات التي كان موجودة ، الثانية كانت ضد المنكرات حيث منع الخمرات والأمور الظاهرة ، الثالثة كانت ضد التمزق حيث وحد الكثير من البلاد الإسلامية ، و الرابعة كانت معركة حطين المشهورة التي كانت الثمرة لتلك الجهود . كأنك تروج لمفهوم الدولة الدينية ، وهذه جدلية أخرى ؟ أحب إن أشير إلى أنى لا أحب كلمة «الدولة الدينية» ، لأنها كلمة لا تعبر عن المعنى الذي نريد، فمصطلح الدولة الإسلامية أفضل بكثير ،لان الإسلام فيه الدين والدولة وفيه أيضا الحياة المدنية ، ويمثل القران دستور الدولة . الدولة الثيوقراطيه ما هي الإشكالية في مصطلح الدولة الدينية؟ الدولة الدينية تسمى بمصطلح الدولة الثيوقراطيه المرتبطة بالمسيحية النصرانية والتي كان الحاكم فيها هو الكاهن والقسيس وهو باعتبار حكم الإلهة ، حيث كانت الكنسية تحكم باسم الرب ، حقيقا عانت الشعوب من هذه الدولة معاناة قاسية ووصلت ذروة المعاناة إلي الصراع المعروف التي كانت فيه الكنسية تقتل كل من يدلى بحقائق تخالف تصور الكنيسة حتى لو كانت حقائق علمية بحتة. وماذا عن الدولة المدنية ؟ الدولة المدنية أرادت أن تخرج من عباءة الدين في ذلك التاريخ فكونت دولة علمانيه لا تقوم علي أساس مطلقا، ثم تطورت وباتت تنادى بالدولة الوطنية التي تقوم على رقعه معينه لشعب يمثلون خصائص معينه ، إلا أن هذه النظرة تسببت فيما بعد بمشكلة حيث ظهرت النازية في ألمانيا والفاشية في ايطاليا ، ولا تزال أثارها موجودة حتى الآن ،ثم تطورت النظرة الغربية لتصبح الدولة هي دولة القانون وان القانون يسود فوق الجميع . في فكر الإنسان من خلال حديثك أين تقع الدولة الإسلامية بين الوصف الديني والمدني ؟ بداية ، الدولة أصلا قائمة في فكر الإنسان منذ القدم ، و يقول بعض الفلاسفة أن الدولة نوع من التوجه للعقل بدلا من الأهواء والى الوحدة بدلا من الصراع ، ويقول وول ديورانت في كتابه الشهير قصة الحضارة والذي يعتبر من الكتب القليلة التي أنصفت الحضارة الإسلامية ، «أن الشعوب احتاجت للدين لكبح جماح النزوات ، حيث النفس البشرية بطبيعة الحال تميل للعدوان ، والدولة كنظام للمجتمع تمنع العدوان وتجعل الصالح العام هو الذي يجمع هذه المنظومة «. إذا لما الخوف من الدولة الإسلامية ؟ دعني أتابع ، تطورت الدولة حتى أصبحت لديها سلطة تنفيذية و تشريعيه قضائية ، وأصبح هناك الفصل بين السلطات و سيادة القانون و المساواة ، كل هذه القضايا يتوهم البعض أن الدولة الإسلامية ستضيع هذه المعالم من هنا جاء الخلل أو الخوف من الدولة الإسلامية ، حيث يقولون إن الحاكم أو الخليفة قوله لا يرد وانه سيحكم بالسوط الإلهي ، ويعيدنا إلى تاريخ دولة الكهنة والقساوسة . دولة مدنيه كيف ترد على الذين يقولون بهذا الكلام ؟ الإسلام جاء بمفاهيم ليست بعيدة عن مبادئ الدولة المدنية ، فالعدالة موجودة في الإسلام حتى مع الكفار ، والتنمية الاجتماعية ، كما أن الإسلام يدعو إلى العلم ، والحكمة ضالة المؤمن ، فالدولة الإسلامية هي دولة مدنيه بالاعتبار العملي وهي إسلامية باعتبار المرجعية . لكن «الإسلامية» عالمة بارزة في الدولة ؟ الإسلامية تظهر في أمور محددة مثل كليات الاعتقاد وشعائر الإسلام ، كما أن هناك اداب و أعراف عامة في المجتمع ، حيث لا ينبغي أن تكون المنكرات والمحرمات ظاهرة ، و تنفيذ الأحكام الشرعية وفق الحدود الواردة في القران والسنة ، و أخير ضابط يجمع هذا كله وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر للحفاظ على كل هذه المكتسبات ، فليس في الإسلام عدوان على العلم أو تسلط على الخلق وإلغاء العدالة، و التطبيقات إن انحرفت ليس حكما على أصل المشروعية الإسلامية الواردة في الكتاب والسنة ، صحيح أن هناك سلبيات لكنها لا تقارن بالايجابيات الموجودة. تجربة الدولة الدينية هناك من يخشى أن تكرر الدولة الإسلامية ما حدث في أوربا إبان عصور الظلام ؟ الإشكالية حول خشية أن تكرر الدولة الإسلامية تجربة الدولة الدينية التي سادت في أوربا تتمثل في نقاط معينه ، مثلا يقولون أن الدولة الحديثة هي دولة متطورة منفتحة على كل جديد ، بينما الدولة الإسلامية تعتمد على مبادئ يعتريها الثبات والجمود ، يقولون الدولة الحديثة سلطاتها من الشعب ، بينما الدولة الإسلامية مرجعيتها الأحكام الشرعية ، الدولة الحديثة لا تميز بين المواطنين والدولة الإسلامية تميز بين أتباعها وغيرهم . لكنهم لا يعون فقه الثوابت والمتغيرات فالإسلام دين متطور مع كل المستجدات والتطورات والحكمة ضالة المؤمن ، والرسول قال انتم اعلم بشؤون دنياكم ، وهناك دولة إسلاميه قامت وخلافة حكمت لفترة . نقطة مهمة نصوص الشريعة دلت على أن الخلافة الإسلامية ستغيب لفترة من حياة آلامه ، وهناك من الإسلاميين ما يزال واقفا عند حد المطالبة بالخلافة الإسلامية ؟ هنا نقطة مهمة جدا ، فالإسلام لم يأتي بنظام حكم محدد مفصل لأداء رعاية شؤون الناس ، الإسلام في كلياته العقدية وشعائره التعبدية وأدباه العامة مظلة كاملة ، يقولون أن هناك فرق بين الحكومة والدولة ، والحكومة جزء من الدولة تسقط وتبقى الدولة لأنها الدستور العام أو النظم الحاكمة لذلك المجتمع ، نحن نقول أن القران هو دستور الدولة وهو النظام الحاكم لهذا المجتمع ، و الحاكم آو الخليفة خاضع لهذا الدستور . هل في التراث الإسلامي ما يشير إلى تصور الدولة؟ هناك إلى حد ما فقر أو قلة في المادة المتحدثة عن الدولة في تراثنا الإسلامي ، وارجع بعض الباحثين ذلك بان المسلمين لم يحتاجوا لذلك لان الدولة كانت موجودة ، ولم يكن عندهم جدلية في هذا التصور حتى يبحثوا وينظروا ، على عكس الغرب الذي كانت عنده إشكالات في تصور الدولة باعتبار ما حصل لهم في تاريخهم ، وأكثر ما كتب عن النظم الإسلامية فكان يركز علي جانبين هو الحاكم وشروطه وواجباته والرعية . بمعنى أن الدولة الإسلامية لديها القدرة أن تستوعب التصورات الغربية ، كالديمقراطية مثلا ؟ طبعا نحن ليست وجهتنا أوربا أو الغرب ، لدينا مصادرنا الأصيلة في الإسلام المتمثلة في الكتاب وألسنه وفي تاريخنا الإسلامي وفي التراث الفقهي والعلمي ولدنيا اجتهادات العصر التي تستوعب كل جديد ، القوالب قد تختلف يعني مثلا الديمقراطية كمفهوم متكامل هو حكم الشعب للشعب ولها جذور معينه ونحن لا نقبلها بهذه الطريقة ، إلا إذا كانت كنمط لمشاركة الأفراد وفي صور تتوافق مع الإسلام . تنظير عاطفى كيف ترى أن يكون دور الدعوة تجاه الدولة في عصرنا الحالي ؟ نحتاج إلى مزيد من الاجتهاد من أهل العلم وأهل السياسية في عالمنا الإسلامي لكي نقدم الدستور الإسلامي والأصول الإسلامية ، ولا أن تكون مجرد تنظير عاطفى ، بل بلورتها في صورة مشروع ونظام أو تجربة عملية تطبيقيه ، و أنا اعتقد إننا في هذا الجانب لدينا المزيد مما يعمل ، وفي هذا الشأن لا حرج أن نقتبس وندرس كل الأحوال وما لا يتعارض مع الإسلام ويحقق كلياته وأهدافه التي ننشدها .