عبير طفلة تزرع البهجة والدهشة في قلوب أسرتها، حين تنطلق ضحكاتها البريئة تنبجس حقول سعادة في عيون من حولها، ولذلك كانت مدلّلة المنزل وطلباتها دوماً مُجابه. فهي ملح البيت وجماله وصفحتها بيضاء لم يكتب فيها شيء تنتظر أن تملأ سطورها أحلاماً وآمالاً، وبيدها قلم تخط به، وكراسة ترسم عليها صوراً تراها، وخواطر تخطر على بالها تريد أن تقرأ وتتكلم بطرف لسان به لثغة، وتكتب بمفردات رخوة تركت فراشها لتتعلم، ولم تنم من شدة فرحها لأنها سوف تذهب لمدرستها مرة أخرى. في أول يوم دراسي من العام الجديد لبست مريولها وخرجت من بيتها الأول متوجهة إلي بيتها الثاني حاملة حقيبتها على ظهرها، صعدت الحافلة مع قريناتها كثيرة الحركة معهن تختبئ تحت المقاعد، وتلعب حتى غلبها النعاس. وعند الوصول إلى مقر المدرسة الخاصة غادر الطالبات الحافلة منتظمات في مقاعدهن الدراسية إلا عبير أغمضت عينيها ونامت بعد أن طوت نفسها على إحدى المقاعد من دون أن يسأل عنها احد، أو تكلف الإدارة نفسها الاتصال بذويها للاطمئنان والسؤال عن سبب غيابها، أغُلقت الأبواب ومعها النوافذ، ركن السائق الحافلة حتى انتهاء اليوم الدراسي على يمين الطريق في مكان منزو لا تستطيع رؤية المارة، ولا يوجد به مظلات تحمي من أشعة الشمس المباشرة بعد أن اكتفى بنظرة عابرة عبر مرآة مقود القيادة، ولو أنه كلف نفسه دقيقة واحدة لتفقد الحافلة ورآها ولكن لم تكن عينه كاشفة لهذه الطفلة الصغيرة التي تركت وحيدة بلا مشرفة أو مراقبة تعمل على قضاء حاجتها بعد أن غط هو في سبات عميق تاركاً عبير تواجه مصيرها لوحدها. استيقظت عبير من شدة الحر ودخلت في نوبة بكاء وضربت بيديها النافذة ورفعتها وكأنها إشارة منها للمارة، والتفتت إلى مقاعد زميلاتها فوجدتها خالية بعد أن تفحصتها مصدومة فالكل ذهب. أخذت تقفز برجليها ملوحة بيديها ترتفع وتصعد على المقعد بجسمها القصير لا تعلم ما يجري، كل ما تستطيع فعله تركض تفر هنا وتتعثر هناك تدور حول نفسها حتى فقدت قدرتها على الحركة فلم يعد لها مهرب عقدت يديها على وجهها ونادت ماما.. بابا.. مدت يديها من يحملها أطلت برأسها من تحت الباب لم يكن أحد سواها استغاثت ولكن لا مجيب، صاحت بصوت طفولي مجروح يخرج من حنجرتها وكأنه خيط صغير يخرج من ثقب إبرة تردد صداه في داخل هذا الصندوق الحديدي الذي منعها من الخروج عاجزة عن كسر الزجاج ولم يمنحها عقلها التفكير بالضغط على المنبه للفت الانتباه، بذلت قصارى جهدها حاولت أن تفعل أي شي لتنجو. قضت في الحافلة منذ الساعة السابعة صباحا حتى وقت الظهيرة متعرضة لدرجة حرارة تفوق 50 درجة مئوية وشمس حارقة ساعدت في تبخر الغازات السامة والمواد الكيميائية من جلد المقاعد ومحتوياتها المصنوعة من البلاستك والإسفنج، الهواء فيها معدوم، لا يدخل لعدم خفض زجاج النوافذ، تنتفض من الخوف. عاشت يومها في رعب يتساقط العرق من جبينها تجففه مرة بطرف كمها ومرة أخرى بمنديلها، عطشانة أصيبت باختناق مع كل شهقة تنفس، انحجبت الرؤية عن الجميع فلم يرها أحد سوى تلك الطيور تقف على حواف النوافذ ذبلت عيناها، وبلعت ريقها لاشتداد درجة الحرارة، صراخها لم يجد، لم يكن لها في الأمر حيلة خفقت الطيور بأجنحتها من وراء النافذة محاولة احتضانها، سقطت من أعلى المقعد ممددة على أرضية الحافلة، وحقيبتها معلقة بظهرها بعد أن ظلت تصارع الموت لساعات طويلة مؤلمة، ماتت ولكن لم تظهر على ملابسها آثار دماء. بعد انتهاء اليوم الدراسي جاء السائق لنقل الطالبات إلى بيوتهن فتفاجأ بوجودها ممددة حاول إسعافها، فتوجه بها لأقرب مركز صحي ولكنها قد ماتت منذ ساعتين، اتصلت إدارة المدرسة لتبلغ ولي أمرها بعد الرجوع لحقيبتها والتعرف إلى اسمها بأنها مريضة، ولكنها في الحقيقة قد ماتت ووضعت في ثلاجة الموتى بدلا من أن تكون على مقعدها الدراسي، عوقبت في أول يوم دراسي حتى نالت نتيجتها مبكرا فسُلمت لولي أمرها شهادة.