رغم أنني شكّكَت في مقال قديم بكثير مما رواه الرحالة الإيطالي ماركو بولو؛ إلا أن قصته عن شيخ الجبل تتوافق جزئياً مع ماسجله التاريخ عن جماعة الحشاشين.. فقد تحدث عن قلعة في بلاد فارس تدعى آلمَوت (بمد الألف) يحكمها رجل دين يتزعم طائفة تدعى الحشاشين.. وكانت هذه الطائفة أول من ابتكر فكرة الاغتيال السياسي والتضحية بالنفس من خلال دافع محسوس وملموس (لم يتوفر لأعضاء القاعدة وداعش على أيامهم).. فبدل أن يعدهم شيخ الجبل بالجنة وحور العين وأنهار الخمر والعسل كان يقدم لهم ذلك فعلياً.. فقد شيّد قصراً رائعاً في أحد الأودية الجميلة قرب نهر شاه ورد وزينه بالذهب والإستبرق وأجرى فيه أنهاراً صغيرة من العسل واللبن والخمر.. وكانت تسكن فيه فتيات جميلات اختطفن منذ طفولتهن ودربن على فنون الغزل والدلال والغناء والرقص والعيش بملابس شفافة. وكان زعيم الجبل يأمر بإعطاء الشبان الجدد الحشيش والأفيون حتى إذا مادخلوا في غيبوبة يحملهم إلى "قصر السعادة".. وحين يستيقظون يذهلون من جمال المكان وكثرة الحسان وأطايب الطعام وأنهار الخمر والعسل.. وكانوا كلما سألوا الفتيات الحسان عن هذا المكان يقلن الجنة ونحن حورها العين.. ويتركهم على هذه الحال لفترة من الزمان (ويتأكد أن كل منهم عشق فتاة حسناء) ثم يدس لهم الحشيش مجدداً ويخرجهم من نعيم القصر إلى ضنك الصحراء.. وحين يستيقظون يقنعهم بأنهم كانوا بالفردوس وأنهم يجب أن يموتوا من أجله إن أرادوا العودة إليه مجدداً. ثم يخضعهم لتدريبات خاصة بفنون القتال والاغتيال والانتحار الذي يعيدهم إلى الجنة (وبالأخص إلى الحبيبة التي تنتظرهم هناك)... ويدعي ماركو بولو أن امتثالهم لسيدهم (شيخ الجبل) وصل حداً، أنه أمر ثلاثة منهم برمي أنفسهم من سطح القلعة الشاهق ففعلوا بلا تردد .. وأمر ثلاثة آخرين بقطع ألسنتهم بأسنانهم ففعلوا ذلك وأخرجوها بأيديهم أمامهم!! ... وهنا تنتهي رواية ماركو بولو التي ضمنها حسب رأيي شيئاً من توابل الشرق وسحر الرحلات.. أما القصة الحقيقية فهي أن مؤسس هذه الطائفة هو حسن الصباح الذي ولد ومات في إيران وكان يلقب بشيخ الجبل.. وهو من الشيعة "الاثنا عشرية" ومؤسس الطائفة الإسماعيلة في المشرق.. وكان حسن الصباح قد بدأ حياته بالدعوة للفاطميين وكان يبحث عن مكان حصين يحميه من السلاجقة الأتراك.. وبعد بحث طويل لم يجد أفضل من قلعة آلَمُوت (ومعناها بالفارسية عش النسر) التي تقع على ارتفاع 2,100 متر شمال إيران فاستولى عليها وحولها لمركز حصين لم يخرج منه طوال أربعين عاماً.. في عام (485 ه) شن السلاجقة حمله عسكرية لاقتحام قلعته فرد عليهم بعملية انتحارية قتل فيها وزيرهم القوي "نظام الملك" نفذها فدائي تنكر في زي رجل صوفي.. ويقول المؤرخ رشيد الدين إن حسن الصباح نصب فخه بعناية كي يشتهر ويخشاه الولاة وكان أول من رسم العمليات الفدائية.. ويصف أتباعه بالشجاعة والإقدام وكان أحدهم حسب قوله يدخل وحيدًا لاختراق جيش عرمرم أو فتح بوابة حصينة حتى يتقطع إربا فلا يردع ذلك رفيقه عن تكرار فعلته.. وكانوا في عزّ قوتهم يقطعون الطرق وينهبون القوافل ويسرقون أقوى الجيوش بما فيهم جيوش التتار رغم قوتها وشراستها... وكان اغتيال نظام الملك واحدة فقط من اغتيالات كثيرة نفذوها ضد ملوك وأمراء وقادة وفقهاء استمرت حتى احتل هولاكو قلعة آلموت (عام1256م) وقضى على فتنتهم التي استمرت طوال قرنين!! ... كل هذا أيها السادة يثبت أن العمليات الانتحارية والاغتيالات السياسية لم تكن وليدة عصرنا الحاضر أو المنظمات الإرهابية الحديثة (بدليل دخول كلمة الحشاشين إلى اللغات الأوروبية بمعنى اغتيال سياسي أو أسيسينيشن Assassination).. وبالإضافة إلى رواية رشيد الدين، ورواية ماركو بولو، أنصحك بشراء رواية تاريخية جميلة (مترجمة للعربية) تدعى "آلمُوت" أو قلعة النسور للكاتب السلوفاني فلاديمير بارتول.