الموت هو الحقيقة المطلقة في هذه الحياة لكل ما هو على الكرة الأرضية من إنسان وحيوان وجماد، فلا يمتلك أي منا صفة الخلود ولو فعلَ ما بيده، حولنا أحباب هم اليوم معنا، نتواصل معهم بمحض إرادتنا وإرداتهم وفي الغد هم بجوار الرفيق الأعلى ينتزعهم القدر من بيننا ويرغمنا على توديعهم ولو أبينا. فهل تخيلنا يوماً احساس أم تُفرِّغ غرفة ابنها من ممتلكاته الشخصية لأنه توفى، أو زوجة تفصل ممتلكاتها الشخصية عن ممتلكات زوجها المتوفى لتودعها الجمعيات الخيرية وهي على يقين بأن صاحبها رحل دون عودة، كيف تنجح الأسرة في تجاوز تلك المحنة؟، كيف تفرغ مملكة المتوفى (غرفته) من مقتنياته الشخصية وهي متماسكة؟، كيف تعتاد على فراق الحبيب بداخل أسرة كان هو من أهم محاورها؟، يضحك مع هذا ويحكي مع ذاك ويجادل آخر، كيف تتأقلم على الفراق الموجع؟ «الرياض» في عددها هذا الأسبوع تجيب عن تلك التساؤلات الموجعة، وماذا يجب على الأسرة أن تفعله في حال موت حبيب لها. كانت عبير سهرانة مع شقيقاتها وهي في أتم صحة وعافية، تنتظر الغد لتنتقل لمنزلها الجديد الذي ابتاعته وزوجها مؤخراً، كانت سعيدة كثيراً وقد هاتفت قريباتها لتدعوهن لزيارتها نهاية الأسبوع المقبل في منزلها الجديد، نامت ولكن لم تنجح شقيقاتها بإيقاظها ولم تنفع صرخات طفلها الوحيد ولا رجاءات زوجها فالموت كان أسرع من أحلامها الصغيرة وأمنياتها ببيت دافئ يجمعها وزوجها وطفلها، كان وقع مصيبة موتها كبيرا على أسرتها وزوجها والمحيطين بها، وبعد مضي أيام العزاء الثلاثة توجهت شقيقاتها إلى منزلها الذي لم تسكنه لانتزاع ذكرياتها وممتلكاتها وهن في حال مؤلم، كل قطعة ينتزعونها لهم فيها ألف ذكرى مع شقيقتهن، تألم زوجها وبقي فترة من الزمن يعاني ولم ينجح في انتزاع ذكراها من قلبه أو حتى من محو صورة ممتلكاتها وملابسها وهو يسلمها لمندوب الجمعية بيديه. ولم يختلف الحال بالنسبة لأم محمد التي اعتزلت الحياة منذ وفاة ابنها ذي ال16 عاما، نسيت الفرح وبقيت ذكريات ابنها تكويها بفراقه، ففي الوقت الذي كانت تحضر فيه الغداء له وتنتظر عودته من المدرسة، عاد ولكن محمولا على الأكتاف كجثة قدر الله لها الوفاة، لم تتمالك نفسها، بكت وانتحبت وجزعت فهي أم والذي ذهب قطعة من قلبها، أراد زوجها تخفيف هول الفاجعة عليها ففاجأها باليوم الثاني بأن انتزع كل ممتلكاته خارج المنزل حتى تنساه أمه ولكن ما حصل هو العكس تماما، فهي رأت زوجا قاسيا لم يرحم أمومتها ويعطيها الفرصة لتستجمع قواها وتودع ممتلكات طفلها على مهل! الأسرة تحتاج وقتاً لتتجاوز المحنة تقول تماضر الخنيني: أشفق كثيرا على فقدان الأسرة فرداً من أفرادها لاسيما وإن كان معهم في نفس المنزل، فمن وجهة نظري يجب أن تعطى الأسرة وقتها لتتجاوز المحنة بهدوء دون ارباكها وزيادة فاجعتها بنزع ذكريات المتوفى بسرعة، فالعقل البشري سيعتاد على المصيبة وسينساها ولذلك يجب أن نعطي ذوي المتوفى الوقت، وأن يمارسوا الحزن كفاية ليتجاوزوا المحنة بسلام. واتفق معها عبدالله الادريس وقال: بعض الأشخاص يتجاهلون مشاعر ذوي المتوفى ويتعاملون معهم بقسوة بغية اعادتهم لرشدهم بل ويطلبون منهم عدم البكاء أو الحزن من باب الايمان، وهذا غير صحيح فالدين أعطى المرء حق الحزن والبكاء ولنا في رسول الله قدوة حسنة حيث بكى على فراق أحبته وعبر عن حزنه وألمه ولكن دون جزع أو نوح أو لطم خدود، فيجب أن يتم التعامل مع ذوي المتوفى بانسانية وألا نستعجل عليهم بإفراغ غرفة المتوفي ومصادرة رائحته وممتلكاته بشكل سريع، بل يجب أن يكون عن اقتناع ورغبة من ذوي المتوفي، ومن رأيي أن يقوم أشخاص من خارج المنزل بهذه المهمة الصعبة وذلك حتى لاتتجدد الأحزان بداخل ذوي المتوفي. الملابس والممتلكات لا تعني شيئاً بينا قالت فاتن الفرهود: الملابس والمملتكات لاتعني شيئا بجوار فقد حبيب وغالي، فعندما فقدنا والدي -رحمه الله- حرصنا على تعزيز ذكراه من خلال إقامة معرض مصغر له بالصالة الخاصة بنا لعرض بشته وساعته وسبحته وسجادته وأبرز مقتنياته الشخصية، مرفقة بصورة له ودعاء، وذلك كي يتذكره أحفاده وأبناؤه ويدعون له كلما مروا بمقتنياته -رحمه الله-. من جهته قال خالد الدوس -الاختصاصي في القضايا الاجتماعية والأسرية-: لاشك أن الموت حق وعاقبة كل حي وختام كل شيء، ونهاية كل موجود سوى الخالق الواحد المعبود سبحانه وتعالى، وهو أول رحلة للآخرة وتعقبه رحلات طوال كأمر ثابت وحتمي لا مفر منه ولا مناص، انطلاقا من قوله تعالى (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ). خالد الدوس وعندما يموت احد أفراد الأسرة خاصة الأب فان رحيله يترك وراءه زوجة جريحة، وأبناء مكلومين يتألمون لفقده، ويحزنون بغيابه، ويبكون بوفاته، لكن هنا تختلف درجة المشاعر الوجدانية، والضغوط الانفعالية، والتوترات العصبية التي تصيب أهل المتوفى حسب معطيات الوازع الديني والمكون الثقافي والخلفية الاجتماعية، كما أن تأثر الأسرة بموت احد أفرادها، أو موت عزيز عليها يختلف، أو تتباين درجته وطبقا للبناء النفسي، والعاطفي والتكوين الشخصي والعقلي والقيمي للإنسان، فهناك من يتأثر بوفاة قريب أو عزيز بدرجة يفقد فيها المصاب توازنه النفسي واستقراره الوجداني إلى حد تصل درجة الانهيار والاستسلام للأحزان، وألم الفراق، والارتهان في أحضان الأسى والاكتئاب، وهناك من يكون تأثير الوفاة عليه بدرجة بسيطة وبصورة اقل بكثير من الحالة الأولى، حتى وان تساوت فيها نوع القرابة ودرجة الصلة. وزاد أنه من المؤسف أن هناك حالات انهيارية تقودها مشاعرها الجياشة وعواطفها لحظة سماع وفاة قريب أو عزيز إلى السقوط في نفق (الاكتئاب) المزمن واعراضه المرضية وربما تحتاج إلى علاج نفسي أو دوائي إذا لازم الأمر، موضحا أنه يمكن إعادة التوازن النفسي والعاطفي والاستقرار الانفعالي والعصبي للأسرة وضبط إيقاع رتم حياتها بعد وفاة احد أفرادها من خلال تواصل الأقارب والأحباب حتى بعد انقضاء أيام العزاء. وأضاف أن التواصل الاجتماعي والزيارات من الأقارب وأهل الحي والأصدقاء، خاصة في أيام العزاء هو مظهر من مظاهر التضامن الانساني والتكافل الاجتماعي، ويساهم في تخفيف المشاعر السلبية وألم الفراق لأهل الميت ومواساتهم في مصابهم الجلل وتذكيرهم بفضل الصبر فهي ميزة المجتمعات الإسلامية كما يقول علماء الاجتماع. وزاد الدوس أن من أصعب الأوقات واقسي اللحظات التي توجهها أسرة المتوفى بعد انتهاء أيام العزاء هي ساعة انتزاع ونقل ممتلكات ومقتنيات المتوفي من داخل غرفته، فهي تعيد الأسرة لدوامة الأحزان والبكاء، ولذلك من الأهمية نقل ملابس ومقتنيات الميت بعد انتهاء العزاء مباشرة بأيام يفضل لا تتجاوز الأسابيع الأولى من الوفاة حتى لاتفتح نوافذ من جديد والبكاء بعد مشاهدة ملابسه ومقتنياته والأشياء التي كان يستخدمها في حياته قبل مماته، خاصة وان الحزن الشديد يشكل خطرا على الصحة العامة إذا تحول إلى اكتئاب مرضي مزمن، وبالتالي من الضرورة التخلص من ممتلكات وملابس ومقتنيات الميت في الأسابيع الأولى من وفاته، بنقلها لإحدى الجمعيات الخيرية وجعلها صدقة للميت وثوابا له. وأضاف أن تجاوز الأسرة لحالة وفاة داخل البيت يختلف من أسرة إلى أخرى والفيصل فيها قوة الايمان بالله وقبول حقيقة الموت، ومعروف أن المشاعر العاطفية داخل النسيج الأسري في تركيبة المجتمع السعودي تمثل أحد أهم خصائصه في كثير من الاتجاهات والسلوكية والقيمة الاجتماعية فكيف عند فقد عزيز أو قريب، لاشك ستكون مرحلة مؤلمة وتجربة متعبة لأسرة المتوفى، ومن الممكن ان تتجاوز الأسرة أزمة الوفاة ومرارة الفقد والاعتياد على ذلك بقوة الإيمان بالله والرضى بقضائه وقدره، فالوازع الديني ومكوناته يمثل مصدر قوة ومواساة فاعلة للمسلم ومساعدته على تجاوز المحنة النفسية والوجدانية والعصبية والاجتماعية المتمخضة عن وفاة القريب أو العزيز، بالإضافة إلى السمات الشخصية والتكوين النفسي والعصبي للافراد داخل النسق المنزلي، كما أن خبرة الفرد السابقة وتجاربه، ومدى علاقته بالفقيد، وكذا خلفيته الثقافية والاجتماعية عوامل بالتأكيد تساعد أسرة المتوفي وأقاربه على تجاوز الأزمة والتعايش مع التغير المفاجئ في قالبه الاجتماعي بعد الوفاة وقبول الواقع الحياتي الجديد وعدم الانسحاب منه والميل للعزلة، والارتهان في أحضان الاغتراب النفسي والاجتماعي. الاحتفاظ بمتلكات الميت وحول الاحتفاظ ببعض ممتلكات الميت رأى خالد الدوس أن مجتمعنا السعودي ومكوناته يقوم على مبادئ وأسس وقواعد الشريعة الإسلامية ومنهجها القويم، ومعروف أن الأسرة نسق من انساق المجتمع لها عادتها وتقاليدها وقيمها ومعاييرها الاجتماعية الأصيلة المستمدة من هذه الشريعة السمحة تؤمن أن (الموت) حق وهو أمر نافذ وثابت من ثوابت الحياة، وان الإنسان مهما عمّر في هذه الدنيا الفانية لامناص من الرحيل وسوف يترك خلفه أحبة يبكون لوفاته ويحزنون لفراقه وهنا يكمن (الامتحان) على قوة الصبر والثبات والاحتساب، فالاحتفاظ ببعض الممتلكات والمقتنيات والأشياء التي تركها المتوفى للذكرى أو خلاف ذلك ظاهرة غير صحية تؤجج مشاعر الأسى وتزيد من مرارة الفقد وأوجاعها، صحيح قد تكون الصدمة النفسية شديدة وحادة في حالة موت عزيز خلال أيام، أو الأسابيع القليلة ما بعد الوفاة ولكن الفيصل الذي يضبط عملية توازن السلوك والمشاعر والعقل والوجدان ويختصر بالتالي زمن شفاء الأسرة المجروحة هو «الوازع الديني» أولا ثم الاحتياج إلى الدعم الاجتماعي والنفسي والعاطفي سواء من أفراد الأسرة أو الأقارب والأصدقاء وأهل الحي. أهل المتوفى قد يتحملون تكاليف ولائم العزاء التصرف في مقتنيات وأغراض المتوفى من أصعب المواقف التي تمر على أسرته مظاهر فرح بثوب حزن أصبح العديد من أفراد المجتمع يُلبس الحزن ثوب فرح من ألم، يجتمعون حول أهل الميت بهدف تصبيرهم فنجدهم يزيدون الهم بتجاهل مصيبتهم وتصبيرهم وتذكيرهم بجزاء الصابرين، فظهرت ولائم العزاء ومكياج الحزن للسيدات وتقديم المقترحات نحو ورث الميت من أشخاص وممتلكات. فمن المفترض أن يكون هناك فوارق بين المناسبتين؛ فمن غير المعقول أن يصل التشابه حداً لا يمكن قبوله، ومن غير المنطق ما يجري أحيانا في التعزية ومن ذلك: - بالغ البعض في مراسم العزاء، حتى استأجروا قصور الأفراح، بحجة أن منازلهم لا تسع المعزين، وهذا أمر مرفوض جملة وتفصيلا، إذ إن الاجتماع للتعزية في حد ذاته محل نظر عند أهل العلم، وأقل ماورد فيه الكراهة. - مظاهر البذخ في الولائم باتت واضحة للعيان، وقد حضرتُ مرة وهالني أمر الولائم، ودفعني الفضول حينها إلى السؤال عن مقدار ما يتم تقديمه يوميا، وكانت الإجابة أنهم يقدمون يوميا 24 رأساً من الأغنام بعد طهيها، بل وصل الأمر إلى تقديم أمور ترفيهية يستنكف القلم عن ذكرها. - مما يؤسف له هو أن الناس وهم في مكان العزاء (وأحيانا أخرى وهم في المقبرة) يتحدثون بأمور الدنيا، بل وتسمع أحيانا ارتفاع الصوت بالضحك إلى درجة ممجوجة، وهو أمر محزن، فلكل مقام مقال. - يبالغ البعض في نشر خبر التعزية ابتداء، ومن ثم شكر المعزين بعد انتهاء أيام العزاء، وقد يدفع مبالغ تصل إلى مئات الألوف، ولا شك أن التصدق بتلك الأموال أولى وأنفع. - من المضحك المبكي أن يقوم بعض أهل المصاب بإعداد الطعام بأنفسهم، وقد عرفت أناسا يتحملون تكلفة جميع ولائم العزاء لجميع الأيام، مما يجعل المصيبة مصيبتين، والبعض الآخر يجعل اليوم الأخير فقط على أهل الميت في مفارقة عجيبة، والمفترض الابتعاد عن كل هذه المظاهر، فهي لم ترد نصا ويرفضها المنطق السليم. إن التعزية يفترض تبسيط أمورها، وأخذ العبرة من الوفاة، والابتعاد عن كل ما من شأنه الاقتراب من الفرح والابتهاج، فالولائم وقصور الأفراح، وإعداد الأماكن الكبيرة لاستقبال القادمين هي أقرب للفرح منها للتعزية. والمرجو أن يعيد العقلاء النظر في هذه المظاهر، وأن يبادر الحكماء لكبح جماح هذه المحدثات، وأن يضعوا كل أمر في نصابه، فلا إفراط ولا تفريط. #هشتقة