«قد تخدع كل الناس بعض الوقت، ويمكنك حتى أن تخدع بعض الناس كل الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت» (ابراهام لينكولن) «تعيش الحقيقة في خضم الخديعة» (فريدريش شيلر) لا نعلم لأي جمهور أصبح حسن نصر الله يلقي خطبه الرنانة والفارغة في آن، هو الذي يعلم قبل غيره ان جمهوره قبل 2006 ليس هو ذاته ما بعد 2006 وبالتأكيد ليس ذات الجمهور بعد غزوة أيار 2007 التي أماطت اللثام عن الوجه الحقيقي لحزب الله الذي انحرف عن علة وجوده –مقاومة الاحتلال الإسرائيلي- وصوب بندقيته نحوه ابن وطنه، وأصبح عبئا على استقرار لبنان وسلمه الأهلي، يصر أمين عام الحزب على الخطابة المجلجلة وهو يرى رصيده يتآكل في الشارع العربي والإسلامي بعدما ذاب الثلج وبان المرج كما يقول المثل الشامي، وسقطت رطانة المقاومة والصمود على وقع تورط الحزب في مستنقع الاصطفاف المذهبي، والتموقع القائم على نداء الطائفة واملاءات الولي الفقيه هناك في طهران. جديد الخطاب: اللعب بأوراق مكشوفة.. سقط قناع المقاومة حالة الاحتقان التي كان عليها نصر الله في خطابه الأخير وهجومه على المملكة وعملية «عاصفة الحزم» ليست نابعة من رؤية ذاتية بقدر ما هي صدى لحالة التوتر والارتباك المخيمة على كفيله الإيراني وهو يرى مشروعه المشبوه في اليمن يتهاوى تحت وابل طلعات التحالف، بدا نصر الله وهو يسوق توقعاته بفشل العملية كأنما يردد تمنيات طهران ورغبة خامنئي وفريقه، يفعل ذلك وان ادرك انه انما يجافي المنطق ويناقض مقتضيات الواقع التي لا تخفى على أحد. (خطاب عبثي) عجيب هذا (النصر الله) في إصراره على لغة أثرية لم تعد تقنع حتى دائرته القريبة التي بدت أصوات تململ خجولة تتردد في محيطها، عجيب اذ يدعي ان «عاصفة الحزم» مرفوضة يمنيا، فعن أي يمن يتحدث، اليمن الذي استنجد رئيسه الشرعي-بتوقيع إقليمي ودولي- بأشقائه لإنقاذ بلاده من تمرد كاد يوردها الهاوية، أم يمن الحركة المسلحة التي رأت نفسها أكبر من البلد في استيراد لتجربة حزب الله في لبنان، يمن الهبة الشعبية التي خرجت في الشوارع لترحب بحملة الإنقاذ التي تقودها المملكة، أم يمن العناصر المنشقة التي يحركها رئيس تم خلعه بإرادة شعبية جامعة، يمن العروبة ومنبعها البكر، أم يمن منضو تحت العباءة الفارسية. لابد أن نصر الله ممثل بارع وهو يرعد ويزبد في قضية لا ناقة له فيها أو جمل، في مشهد ينتمي لمسرح العبث، لا لشيء الا تنفيسا لصدر وليه الفقيه، اذ يتعذر ان نصدق انه مقتنع بفحوى حديثه وهو يقول "الكلام في الموضوع الطائفي والديني وسائل بشعة تستخدم في الصراع السياسي"، بينما سلاح الحزب خارجا عن قواعده ومحيطه الطبيعي يتطفل على المأساة السورية، ويصطف مع نظام باغٍ ومتوحش ضد شعبه، فأي مقاومة هذه التي يغمس سلاحها بدماء الأشقاء في الوطن وفي الأوطان المجاورة ايضا، وهل أعادت تركيب صورة العدو فاستبدلت اسرائيل بخصم آخر على اسس مذهبية هذه المرة، وهل بات لكلمة الصمود وجه جديد يتصل برفد صمود النظام الطائفي في سورية في وجه ثورة شعبية سلمية، هذا الحضور الطائفي المكشوف لم يكن طارئا، بل للحقيقة كان تظهيرا وصورة مكثفة لكل ما سلف من الحزب في بلده لبنان في السنوات السابقة. (عندما ضل الطريق) عودة الى عام 2000 حيث حقق الحزب انجازه الكبير بانسحاب اسرائيل من جنوبلبنان، اذ بعد هذا التاريخ دخل حزب الله في مسار آخر، وابتعد كثيرا عن فكرة تأسيسه وجذر نشأته، ليتحول من حركة تحرر وطني، الى جماعة خارجة على الاجماع اللبناني، ولتنزل أجندته عن تحقيق التحرر وطرد المحتل الى الانزواء في ركن الطائفة، والمنافحة عن مصالحها أو ما يرى انه مصالحها، هنا خرج الحزب من اطار المقاومة الجامعة وتحول فصيلا سياسيا ذا طموحات داخلية، وأداة لأجندة خارجية لا ترى لبنان وطنا مكتمل السيادة، بل ساحة مستباحة لمشروع التوظيف السوري والتمدد الايراني، وأوهام الهيمنة الاقليمية، هذا الانحراف الدراماتيكي في هوية حزب الله تجلى في انخراطه في سلسلة اجراءات أسفرت عن شل الحياة السياسية والحكومية في لبنان عبر اشتراطات مستحيلة ووضع العصا في دواليب الدولة، عبر توظيف التمثيل النيابي لتعطيل العمل الحكومي والقرار السياسي، مستظلا في مسعاه هذا بسلاحه الذي رغم انتفاء مبرر احتكاره ظل خارج نظام الدولة. (دولة حزب الله) هذا السلاح والقوة العسكرية المستقلان عن القرار السيادي الوطني، خلق من الحزب دولة داخل الدولة، وقوة موازية بل فوق قوة الدولة. الطبعة الجديدة للحزب سوقت لمشروعها باستدعاء خطاب فئوي شحذ الخطاب الطائفي في لبنان، وشد عصب الحالة المذهبية التي ظن اللبنانيون ان غيومها قد انقشعت بعد نهاية الحرب الاهلية الدامية واتفاق الطائف التاريخي، ما ادخل البلاد في نفق مظلم، فارت فيه الدعوات التقسيمية، وسادت نبرة الانقسام الاجتماعي، والركون الى حضن الطائفة والمذهب، وهو ما افرز احتكاكات خطيرة بين شركاء الوطن كادت كثيرا ان تنزلق بلبنان الى حقبة الحرب الاهلية مجددا. في ظروف ملتبسة كهذه عاش لبنان على شفير الهاوية، حتى حدث زلزال الاغتيال الوحشي لرفيق الحريري، حيث استكمل البلد حالة الاستقطاب الخطرة، واستيقظت لغة «عين الرمانة» من رقدتها الطويلة، وهي العملية التي اشعلت عام 1975 فتيل حرب اهلية دامية استمرت فصولها القاتمة 15 عاما. وتوجهت أصابع الاتهام الى حزب الله ومن ورائه النظام السوري، وتلا ذلك سلسلة اغتيالات متنقلة، كان مريبا انها كانت دائما ضد جهات وشخصيات محسوبة على المعسكر الآخر المضاد لحزب الله ومشروعه. (التضحية بلبنان) كان لافتا في خطاب نصر الله الاخير انتقاده للتدخل الاقليمي ضد التمرد الحوثي في اليمن، بزعم تهديده حياة المدنيين، في حالة فصام تستعصي على التفسير، ولعل ذاكرته خانته او انه اراد ان يخونها، متناسيا «نصره الالهي» الذي جر على بلده حربا كارثية عبثية عام 2006 ما زال لبنان يعاني تبعاتها الى الان، تلك الحرب التي استدعى فيها الحزب العدوان الاسرائيلي بإقدامه على خطف جنود إسرائيليين، ما منح حكومة العدو الإسرائيلي ذريعة لشن عدوان وحشي أسفر عن نتائج باهظة في الأرواح وفي البنية التحتية، حيث أدى العدوان الى مقتل 1200 مدني لبناني وجرح 4400، كما اسفر عن تدمير 78 جسرا، وتدمير وتصدع 42000 منزل، وتدمير 62 مدرسة، فضلا عن تدمير المطارات، والطرق وعشرات المنشآت الاقتصادية، كما أدى الحصار الإسرائيلي الشامل برا وبحرا وجوا الى تداعيات وخيمة على الاقتصاد اللبناني. (صيف غير منتظر) جاء صيف 2006 اذن على غير ما اشتهى اللبنانيون، فعوضا عن استقبال أكثر من مليون ونصف سائح متوقعين، يبثون في عروق الاقتصاد اللبناني دم الحياة، وينعشون الدخل القومي القائم على السياحة، ادى العدوان الى تهجير ربع سكان لبنان، أي ما يعادل مليون ونصف المليون نسمة ايضا، ارغمتهم الحرب على هجران منازلهم وحياتهم المعتادة الى مأساة الشتات. قتل الموسم السياحي مس بتبعاته معظم الاسر اللبنانية التي تعتاش على دخل الوظائف المرتبطة بهذا القطاع. غير ان تداعيات الحرب لم تتوقف بنهايتها، اذ كان صعبا استعادة ثقة السائح وعودة الحياة الى طبيعتها في ظل استمرار حزب الله في العبث بمصير لبنان، واصراره على الاندفاع في مغامرات غير محسوبة، وهي السياسة التي اعترف نصر الله بنفسه انها سمة من سمات الحزب منذ تأسيسه. عاطفة نصر الله الجياشة تجاه اليمنيين ليتها تفيض على مواطنيه الأبرياء الذي ذهب بعضهم ضحايا لمغامراته، فضلا عن الانفجارات العرضية او المقصودة جراء سياسة الحزب في تخزين أسلحته وصواريخه وسط مناطقة مأهولة وتجمعات سكنية. (اعتراف متأخر) كل هذه الأكلاف الباهظة والتبعات المأساوية لحرب غير ضرورية، الى ماذا انتهت؟ بجردة حساب يسيرة لا يبدو من انتصار حسن نصر الله المزعوم غير الخطب الحماسية، وثرثرة الاعلام الموالي، لكن على الأرض كانت الخسائر شاهدة على تزوير المشهد، وتزييف الوعي العام، ففضلا عن الدمار البشري والعمراني، كانت التبعات السياسية وخيمة، اذ أجبرت اتفاقية انهاء الحرب الحزب الى التراجع الى شمال نهر الليطاني، وتعزيز قوة اليونيفيل في المنطقة الفاصلة مما أدى عمليا لإنهاء حالة المواجهة بين حزب الله وإسرائيل وشل قدرة الحزب في توجيه أي هجمات للعدو. مع تبعات كهذه لا يعدو اعتذار نصر الله المتأخر عن مغامرته العبثية عن كونه لغوا فائضا عن الحاجة، حينما يقر بأن الحزب لو عرف تبعات خطف الجنود الإسرائيليين لما أقدم على مغامرته تلك، هذا الاعتراف الذي رغم حملة المديح التي أقامها إعلام الحزب، كتب شهادة وفاة «النصر الإلهي» هناك من فوق الركام. (احتلال بيروت) كان لابد لهذه الخسارة من ثمن، وحين عجز الحزب عن حسم معركته مع العدو استدار الى شركاء الوطن، وكانت الواقعة التي شكلت تاريخا اسودا آخر في صفحات هذا البلد الجميل، اذ أقدم حزب الله في السابع من أيار 2007على احتلال بيروت حيث نزلت عناصره في عرض مسلح استفزازي في وسط العاصمة السني وقامت بمهاجمة مقرات حزبية ومحطات تلفزيون وصحف، ووضعت البلد مجددا على حافة البركان، ليكشف حزب نصر الله عن مشروعه للاستيلاء على لبنان، ورهنه لإرادة الولي الإيراني، عرض القوة هذا اسقط آخر ورقة توت عن خطاب المقاومة، وأزال آخر الشكوك لدى من كان متمسكا بحسن الظن في الحزب الذي هندسه بدءا مرشد طهران وحرسه الثوري. (إيران تتحدث) خطاب حسن نصر الله الأخير اذن ليس خارج سياق سلوك الحزب المرتهن لأوامر طهران، واجندتها المعلنة منها والمضمرة، وهو في فجاجته وتناقضاته الفاضحة لا يضيف جديدا الى حقيقة الحزب، وانضوائه في عباءة المشروع الفارسي للهيمنة واستعادة طموحات التاريخ وأوهامه، جديد الخطاب ان الحزب فيما يبدو قد أقلع أخيرا عن لعب دور الحزب الطاهر المبرأ من أدواء الطائفية وعلل الفئوية، وقرر أخيرا ان يكشف أوراقه بلا مواربة ولعب بالمفردات، ويتخلى عن معجم المقاومة والممانعة وسائر القنابل الصوتية التي وظفها طويلا لمواراة دوافعه المذهبية، وطموحه العابر للوطن، ولذا لعله من الأجدى لأمين عام الحزب بعدما أصبح اللعب على المكشوف، ان يلقي خطابه القادم من طهران، ليس لشيء، وانما لتتوافق الكلمات مع مقتضى الحال. هذا ما جره الحزب للبنان في 2006 حسن نصر الله خامنئي