بات من الملاحظ اليوم في كثير من الحوارات التي يحتدم فيها النقاش أو تختلف وجهات النظر تحولها إلى ما يشبه "الضرب من تحت الحزام"، فبدلاً من التفاهم والنقاش حول فكرة معينة بهدف الوصول إلى الإقناع بالمنطق والحجة، يتم اللجوء إلى أساليب هجومية توتر الأجواء، فضلاً عن توتر العلاقات بين المتحاورين. عبارة "شوف مين يتكلم؟" واحدة من بين عشرات الجمل والمقولات التي تتناول شخصية وأخلاق ونوايا الطرف الآخر بكلمات جارحة، أو تذكيره بمواقف محرجة هو الأسلوب الحواري الأسرع للإسكات والإفحام، وهو أسلوب تكتيكي يعتمد على انتقاء عبارات نقدية حادة، مما يُسهم في إفراز الكثير من صور المهاترات والنقاشات العقيمة التي جعلت من الحوار حول تلك الفكرة أو القضية إن طال أو قصر لا قيمة له. وحتى نتجنب المهاترات والإساءات في حواراتنا لابد أن يكون الحوار موضوعياً قدر المستطاع، بمعنى أن لا يكون فيه تحيز أو إثبات لشخصية على حساب طرف آخر، وإنما يكون الهدف منه مناقشة الموضوع بوضوح بهدف الوصول إلى الحقيقة أو الحل المطلوب، كذلك من المهم تجنب العبارات السلبية العامة في عملية الحوار مثل عبارة "شوفوا من يتكلم؟"، أو "تراك ما تفهم"، وغيرها من العبارات السلبية التي قد تمس شخصية الفرد، فالحوار الناجح يبتعد عن التعقيدات أو الألغاز أو الأشياء المبهمة. تراشق لفظي وقال "سعود المصيبيح" -أكاديمي وإعلامي-: إن ما وصل إليه مستوى الحوار في مجالسنا وفي وسائل التواصل الاجتماعي وفي مجالات عدة يبين أن لدينا مشكلة لم نحسن التعامل معها، بل ولم نباشر الأساليب الأسلم للتعامل معها، فتعمد هذا التراشق اللفظي وسوء الظن والرغبة في الانتصار والشراسة في فرض الرأي والتعامل الجارح بعيداً عن الأساليب التربوية المحددة في الحوار، حتى تأزم الوضع وتراجع العقلاء من الدخول في أي ساحة حوار وبالذات في الإنترنت، مضيفاً أنه أشرف على تقديم وإعداد وفكرة برنامج دعوة للحوار عبر القناة الأولى السعودية لفترتين حقق فيها جوائز ذهبية وجوائز مختلفة في عدد من دورات مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون، وكان ذلك في فترات زمنية قبل العام 1424ه، وأعتمد في حلقاته على حضور جمهور من مختلف فئات المجتمع وتعويد الناس على الرأي وتقبل الرأي الآخر، كما كانت هناك برامج أخرى تصب في نفس الإطار، ثم جاء مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني ولكنه رغم مرور السنوات الطوال عليه إلاّ أنه لم يحقق الأهداف المرجوة -حسب قوله-، وظل سوء الحوار ومشاكله تزيد في مختلف فئات المجتمع، مبيناً أن الواقع لا يسر، فالحدة في الحوار تنعكس على غضب وشراسة وعدم تآلف في المجتمع سواء كان في الرياضة وهو المجال الذي يستهوي الشباب، أو في بقية القضايا الاجتماعية والثقافية والدينية، وبالذات مع ظهور حركات التطرف مثل "داعش" و"القاعدة" وغيرهما ومن يتعاطف معهما، وانعكاس ذلك على طريقة الحوار ورفض الرأي الآخر. ارتقاء بالأسلوب وأوضح "المصيبيح" أنه بالتعليم نبدأ بالارتقاء بأساليب الحوار، وذلك من خلال زرع أساليبه في جميع المراحل التعليمية، نظراً لأن ما نسبة (83%) من المجتمع السعودي أقل من (39) عاماً حسب تقديرات المركز الوطني للشباب في جامعة الملك سعود، كذلك من المهم تعميق مفاهيم الحوار انطلاقاً من المنهج الإسلامي القويم: "أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، وهذا حوار مع الكفار والمشركين فكيف بأبناء الوطن الواحد، مُشدداً على أهمية حث خطباء الجوامع والدعاة على التذكير بآداب الإسلام في الحوار القائم على الاحترام المتبادل وحسن الظن والأخلاق الإسلامية في الصبر والتهذيب والتواضع، ومثل ذلك برامج الإعلام ووسائله المختلفة، مع تطبيق الأنظمة واللوائح الحازمة عند إساءة الأدب والسخرية وتحقير الناس والاتهامات، بحيث يفصل الشرع في هذا الأمر ويشعر الجميع بالمسؤولية، خاصةً وأن هناك نظام المعلومات واضح في التعامل الإلكتروني ويتطلب تثقيف الجميع به والتقيد به. جدل بيزنطي وأشار "د. محمد بن مترك القحطاني" -وكيل عمادة التقويم والجودة، وأستاذ علم النفس المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- إلى أن بعض الأفراد يلجؤون –وبكل أسف- إلى إسقاط الطرف الآخر في الحوار؛ لأنه يحمل وجهة نظر مختلفة، وهذا ما يُسميه البعض "بالجدل البيزنطي"، وهو حوار لا طائل تحته، حيث يَتناقش فيه طرفان دون أن يقنع أحدهما الآخر، ودون أن يَتنازل كلاهما عن وجهة نظره، مما قد يؤدي إلى اختلال في التوازن الفكري لدى أحد الطرفين، أو ربما كليهما، مرجعاً أهم أسباب شخصنة الحوار إلى الحالة النفسية المتردية التي قد يُعاني منها الفرد، وقد تدفعه إلى عدم الاستماع أو الإصغاء للآخرين أثناء الحوار، مضيفاً أن الشخصية المتعالية لدى بعض الأفراد وهي ما يسمى "بتضخيم الذات" تجعل الفرد ينظر للطرف الآخر بدونية، وبالتالي تكون عملية الحوار غير ناجحة، فلا يحترم الطرف الآخر أثناء الحوار أو الحديث معه، مبيناً أن "الشعور بالنقص" أو "الشعور بالدونية" لدى بعض الأفراد قد يُؤدي بهم إلى تعويض ذلك النقص عن طريق عدم احترام الآخرين في التحاور، ومحاولة مهاجمتهم، ذاكراً أن التنشئة الأسرية القائمة على "رفض الطفل" تجعل الفرد ينشأ على عدم احترام الآخرين في التحاور معهم؛ لأنه نشأ في أسرة ترفضه ولا تستمع له ولم تعلمه فن الحوار. عبارات سلبية وشدّد "د. القحطاني" على أهمية أن يكون الحوار "موضوعي" قدر المستطاع بمعنى أن لا يكون فيه تحيز أو إثبات لشخصية على حساب طرف آخر، وإنما يكون الهدف منه هو مناقشة الموضوع بوضوح بهدف الوصول إلى الحقيقة أو الحل المطلوب، وأيضاً من المهم تجنب العبارات السلبية العامة في عملية الحوار مثل عبارة "شوفوا من يتكلم؟"، أو "ترانا فاشلين"، أو "تراك ما تفهم"، وغيرها من العبارات السلبية التي قد تمس شخصية الفرد وفيها نظرة سلبية له؛ موضحاً أن الحوار الناجح هو الذي يكون واضحا وواقعيا، أي بعيد عن التعقيدات أو الألغاز أو الأشياء المبهمة، وذلك حتى تتحقق الفائدة منه، متمنياً الارتقاء بالحوار بحيث يكون فيه "تعاطف"، أي أن يَتفهم كل طرف للآخر ويحترم وجهة نظره ويتعاطف معه في الحديث، ويكون مؤدبا مُصغيا له، مشيراً إلى أن حرية الحوار لا تعني أبداً أن يَتعدى الفرد حدود اللباقة أو الأدب أو أن يُسيء للطرف الآخر، وإنما تعني أن يُعبر الفرد عما بداخل بأريحية دون أن يُسيء لأحد. وأضاف: من الفنون المهمة في عملية الحوار هو أن ينطلق المتحاورون من الأشياء المتفقين فيها إلى الأشياء المختلفين فيها إن وجدت، حيث إن الكثير من الأفراد يكون هدفه أو تركيزه في الحوار على الخلاف والتخاصم، وتصيّد الأخطاء وتنفير الأفراد ومهاجمتهم، وهذا شيء غير جيد في عملية الحوار ويُعتبر من الأخطاء التي ينبغي تجنبها. شخصنة الحوار وتحدثت "فاطمة مصلح القحطاني" –مستشار التدريب ومساعدة القسم النسوي بمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني- قائلةً: إن واقع لغة الحوار في مجتمعنا تتضمن جانبين وهما القيم والسلوك، مضيفةً أن الحوار جزء أساسي من هويتنا التي تدعو للتصالح والتسامح والتآلف والرقي في أساليب التواصل، ولا نجد من يخالف ذلك أو يعارضه، إلاّ أن واقع السلوك المترجم لتلك القيم تكشفه لنا حواراتنا داخل البيوت، أو في بيئات العمل، التي تستهلك طاقة طواقم العمل فيها أحياناً، حوارات تركز على الخلاف دون أن تستثمر الاختلاف، أو مواقع التواصل الاجتماعي التي تسلط الضوء على اتهام المقاصد وتناول الذوات دون القضايا والأفكار. وقالت إن فضاء شبكات التواصل المفتوح دون ضابط شجع على بروز بعض المظاهر مثل عدم تحمل مسؤولية الرأي والهجوم علي الأشخاص أو التجريح تحت أسماء مستعارة، أو من خلال حسابات وهمية، وهي وإن كانت موجودة إلاّ أنها بدأت تقل في ظل وعي بوادره بدأت تظهر لا سيما مع انتهاء مرحلة نشر ثقافة الحوار كجزء رئيسي وهدف أساسي لمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، ثم بداية العمل على تكريس مهارات الحوار وسلوكياته كأسلوب حياه في المجتمع، مؤكدةً على أن هناك حاجة حقيقية للحوار تبرز عند ظهور الاختلاف لبسط مساحات الفهم واكتشاف الآخرين واستثمار الاختلاف والتنوع، وكذلك تقوية الفكرة والتمحور حول الهدف، وصناعة النجاح والتميز من خلال خلق نسيج متمازج لأفكار متنوعة، لافتةً إلى أن شخصنة الحوار تأخذ أطراف الحوار بعيداً عن هذه الرؤية لتجعلهم يدورون على الهامش ويبحثون عن "السقطات" و"الزلات" لأصحاب الفكرة دون فحص القضية، ومع تهافت لغة الحوار تضعف عرى التواصل ويحل الشقاق والخلاف. تدريب النفس وأوضحت "فاطمة القحطاني" أن إدراك المشكلة وتحديدها نصف الحل، فإذا ما أدركنا واقعاً لا نرتضيه فمن الحكمة أن نبادر بالتغير الإيجابي، وهو ما يتطلب أولاً وقبل كل شيء التخلص من جميع الممارسات السلبية في الحوار وتدريب النفس على تركها، ومراقبة ذلك، ثم التدرب على ممارسة السلوك الحواري الإيجابي في مواقف الخلاف أو الاختلاف، ثم تنظيم وترتيب أبجدياتنا عند الحوار، فقد اختلف معك واحترم وجهة نظرك، مضيفةً أنه لابد من الارتقاء بحوارنا عندما نترجم ما نحمله من قيم إلى واقع في سلوكياتنا عندما نتقبل إننا مختلفين ونتعاون لاستثمار هذا الاختلاف لوحدتنا الوطنية، فنبني وننتج ونتحاور ونختلف لنصنع الفرق وننقد للبناء ونقيم لنرتقي، فنوجه عدسة المجهر للأفكار ونتجاوز الأشخاص، ونستثمر الفرص ونتعلم ونضع أنفسنا في مواقع البناء والعطاء. مواقع التواصل وقال "د. تركي العيار" -أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود–: إنه من المؤسف أن تكون لغة الحوار في مواقع التواصل اﻻجتماعي ضعيفة وﻻ ترتقي بالمستوى المطلوب، حيث شخصنة الحوار وخروجه عن هدفه إلى التجريح والتشهير والتحقير، وذلك لعدم تكافؤ الأطراف المتحاورة والتي تختلف فيما بينها ثقافياً وتعليمياً وفكرياً واجتماعياً، مضيفاً أن الحوار يعكس الإطار المرجعي للمحاور في شتى المجالات، وأن هناك علاقة ترابطية بين ضعف المحاور وشخصنة الحوار، فكلما ضعفت ثقافة المحاور وضعفت حجته وافتقد للمهارات الحوارية كلما زاد ميله لشخصنة الحوار، وركّز على شخصية الطرف الآخر من خلال لونه وشكله واسمه وما شابه ذلك، تاركاً المواضيع الأساسية والمهمة في الحوار، مبيناً أن مواقع التواصل اﻻجتماعي بحكم شعبيتها وتداولها وسهولتها وشيوعها بين كل أطياف المجتمع أثرت بشكل رئيسي على ثقافة الحوار وأضعفته كثيراً وجردته من أصوله وأهدافه، وأصبحت لغة الإثارة والتشهير والمبالغة هي السائدة في الحوارات، بل وأصبح كل من هب ودب ناقدا ومحاورا وقاضيا ومفتيا، لينعدم اﻻحترام للمتخصصين والعلماء والأكاديميين، كون الأبواب فتحت للجميع بدون ضوابط. لغة الحوار في مواقع التواصل اﻻجتماعي ﻻ ترتقي للمستوى المطلوب سعود المصيبيح د. تركي العيار د. محمد القحطاني الحوار الناجح هو الذي يدعو إلى التصالح والتسامح والتآلف