دع عنك لومي فإن اللوم إغراء، هكذا قالها أبو نواس، يمتدح الخمر، لكنه قبل موته قال أبياتاً في التوبة الصادقة لم يقل أجمل ولا أصدق منها: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم أدعوك ربي كما أمرت تضرعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل ظني ثم أني مسلم وفي الحديث القدسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أذنب عبد ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي ربي اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي ربي اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء". كان ظن أبي نواس بربه حسناً، إذ أيقن أن عفوه أعظم من ذنوبه، ولم يستشر فقيهاً في علاقته بربه، ولم يطلب فتوى من عالم، وإنما توجه مباشرة إلى قابل التوب وغافر الذنب. ويروى أن له صديقاً اسمه محمد بن نافع معروف بصلاحه، قال: لما بلغني موت أبي نواس أشفقت عليه، فرأيته في المنام، فقلت: يا أبا نواس، فقال: لات حين كناية، فقلت: الحسن، وهو اسمه الأول، قال: نعم، قلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر الله لي، قلت: بأي شيء؟ قال: بتوبة تبتها قبل موتي، وبأبيات قلتها، قلت: أين هي؟ قال: عند أهلي، فسرت إلى أمه، فلما رأتني أجهشت بالبكاء، فقلت لها إني رأيت كذا.. فهدأت، وأخرجت لي كتاباً، فوجدت أبياته الأربعة. ولما توفي عمر بن الخطاب لم يغير عثمان رضي الله عنهما الولاة وبعد انقضاء العام باشر سلطته في التولية والعزل، وكان ممن ولى على الكوفة الوليد بن عقبة سنة 26ه، ويقال إنه صلى بأهل الكوفة صلاة الصبح وهو ثمل أربع ركعات، ثم التفت إليهم فقال: أزيدكم؟ وقد عزله عثمان وأقام عليه الحد ونفذه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ويقال إن الوليد هو الفاسق المقصود في الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) إثر قصته مع بني المصطلق وكذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. عثمان بن عفان ذو النورين رضي الله عنه لا يجادل أحد في صحبته لرسول الله، وأنه من العشرة المبشرين بالجنة، ولكنه لم يقص الوليد، وهو العارف بحاله، وما نزل فيه، فمجتمع المسلمين الأول مجتمع صحيح وسليم ومعافى، يقدر أن البشر يخطئون ويصيبون وأن الله امتدحهم بأن العبد الصالح يذنب ويتوب، لأنه يعلم أن له رباً يغفر الذنوب. أما في زماننا فإن هناك أقواماً يظنون أن الله لم يهد غيرهم، ويتوقعون أنهم سيدخلون الجنة بأعمالهم وليس برحمة الله. كم من الصحابة والتابعين مروا بالعراق، وأقاموا بها، ومنهم خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص في عهدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، واستقر فيها حكم الدولة العباسية (132-656ه)، وكان في العراق هارون الرشيد الخليفة العابد، الذي يغزو عاماً، ويحج عاماً، ومع ذلك فلم يقترب أحد من أولئك الصحابة والتابعين من الآثار التي تنتشر في أرض العراق. وإذا كان الخوارج قد استحلوا دماء المسلمين فلا غرابة أن يدمروا تلك الآثار التي تؤرخ لمراحل من تاريخ البشرية مهمة، وتكسب المنطقة العربية خصوصيتها الحضارية، وكونها مهد الحضارات القديمة. أبو نواس عرف أن له رباً، فتاب توبة صادقة، وعثمان رضي الله عنه ولّى الوليد بن عقبة على الكوفة رغم ما نزل فيه من رب العالمين، ولم يعزله حتى ثبت لديه شربه الخمر والصلاة بالناس وهو ثمل. المجتمع يجنح إلى التطرف والانحراف عندما ينحى بعض الناس إلى اعتبار البشر ملائكة لا يخطئون، فيحملونهم على غير طبيعتهم، وعندها تكبر عقدة الذنب وتتضخم فتكون التوبة أمراً غير مألوف؛ إما بالانتحار في شاحنة مفخخة، أو بممارسة عمليات القتل بشكل بربري، كل ذلك ليس لتكون كلمة الله هي العليا، وإنما لتطبيب تلك النفوس المريضة بمشاعر الحقد المكبوتة. لمراسلة الكاتب: [email protected]