تترجم المراثي أصدق المشاعر، والرثاء في الشعر والأدب العربي من أكثر صنوف الأدب تأثيراً وخلوداً، وتلك الكلمات التي تقال في لحظات من الحزن والتأثر والانفعال تكون أكثر جمالاً وبقاء، ومازال الأدب والذاكرة العربية حافلة بقصائد الرثاء والنصوص الخالدة منها. ومن عيون شعر الرثاء ما كتبه بعض الشعراء من قصائد يرثون فيها بعضهم أو يرثون أنفسهم قبل الموت أو عند مشارفته. والشاعر عندما يرثي نفسه فإنما تظهر ملكاته الشعرية في لحظات صدق يعيشها وهو يري قرب نهايته. وفي كتب الأدب العربي تظهر تلك المراثي التي تهيج النفس وتثير الشجون وتفتح لواعج القلوب على الفقد. وفي ليلة - ليست ككل ليلة - جمعتني بالصديق الراحل الدكتور راشد المبارك في سنواته الأخيرة.. ليلة شتوية باردة، أدفأناها بالرحيل إلى بعض ملامح الماضي وشخصياته وحضوره.. يحاول تارة أن يقتنص شاردة من أبيات الشعر الأثيرة إلى نفسه.. وتارة أحرض فيه بعض مرح طفولي هجره طويلاً.. وفي لحظة صمت، انقطع كل هذا، فقد طغت على محياه ملامح شرود واستغراق.. ثم عاد ليقول لي: أشعر أن أجلي قريب، وأن أيامي معدودة، لقد أصبحت اليوم على عتبة الانتظار.. لقد أصبح الموت هاجسي!! ترقرقت دمعة حرى من عينيه، ولبثت مرتبكاً كيف لي أن أبدد هذا الشعور، وأنا أدرك أن راشد ليس من أولئك الذين يتأثرون بكلام مرسل لا منزلة له في سلم الحقائق وصروف الأيام.. كيف لا، وشجرة عمره تذوي، وصحته تتهاوى، وضعفه أبقاه حبيس منزله خلال العامين الأخيرين من حياته. ماذا كان عليّ أن أقول في تلك الساعة، سوى إرسال الأمنيات بحياة حافلة بالمزيد من العطاء والتفاؤل الجميل.. ولولا شعوري بكارثة الانكسار أمامه لبكيت بين يديه. وعندما حان وداعه، ناولني بضع أوراق مضمومة، وحين حاولت قراءتها، أشاح بيده.. أن أتركها لوقت آخر. فهمت ما يعني.. وأردف: انها وديعة لديك. عندما عدت لمنزلي، لم أقاوم الصبر، فرميت بصري عليها فإذا هي "رسالة قبل الرحيل". لم أقوَ حينها على الصمود في قراءة مرثية راشد لنفسه.. وأودعتها مكاناً بعيداً عن متناول الأيدي. بعد رحيله، عدت إليها، إلا أن قراءتي لها صارت نزعاً في فؤاد مكلوم، وأنا أستعيد تلك الصور والمواقف.. لقد كانت استغراقاً فريداً صدقه حدسه قبل الرحيل. أضع بين يدي القارئ "رسالة قبل الرحيل"، فهي لن تكون سوى مرثية أخرى في عظيم يرثي نفسه قبل الرحيل. إن كل رثاء بعدها يتضاءل أمام هذا الفيض الطاغي في تصوير بديع يطوف فضاءات تلك الشخصية النادرة.. بقدر ما يثير من لواعج وأحزان الفقد. كتب راشد وصيته قبل رحيله، وفيها أيضاً صاغ رغبته باستمرار ندوته الأحدية، وأشياء أخرى، وبتفاصيل يدرك من اطلع عليها أنه كان يهيئ كل شيء ليوم لا ريب فيه.. وكأنه لا يريد أن يشق على من بعده، فرسم إطاراً يضمن بقاء هذا الوهج الثقافي الجميل. رسالة قبل الرحيل: نعمنا زمانا بالهوى قد صفا الهوى ورق كأنسام الربيع الموردِ تعانقت الأرواح منا.. وضمها رباط سماوي النقا والتجددِ وقد حان من وقتي الرحيل فودعي وداع محب ما احتمى بالتجلد وقولي: لقد كان ألوفا افتدى الوفا جواداً بما يُغلى وما هو باليد وجدتُكَ في قلبي رفيفَ خميلةٍ ونفحة ريحان بظلٍ ممددٍ وقد كنت في عيني الضياء أرى به وفي مسمعي لحناً ندي الترددِ كما أنتَ في دنياي قلعةُ آمنٍ وخيمة أضيافٍ وأهلٌ لقاصدِ لقد كان سباقاً إلى كل خلةٍ من الخير لا يلقى الندا بالتردد وكان محباً للقريبِ وإن جفا وكان رؤوفاً بالبعيدِ المهددِ يبيت إذا ما الناسُ دثّرها الكرى يؤرقه بؤس الطريد المشرّدِ ويضنيه أن يبقى على الارض جائعٌ وتشقيه آلام الأسير المقيَّدِ إذا جاءه الساعي لتفريج كربةٍ تلقاها في بشرٍ لقاء توددِ وإن أنفقت يمناه إنفاقَ موسرٍ فما درت اليسرى بإنفاقِ راشدِ وما كان ذا مال كثير ولا غنىً ولكنه معطٍ لما جال في اليدِ لقد أظلمت دنياي بعدك وانطوى بساطُ الهنا عني وفارق مُسعدي يقينًا لقد غاب الضيا عن محاجري وفارقني سعدي وجفتْ مواردي سأبكيه عمري ما حيْيتُ لما مضى وما زان وقتي من خلال ومحتدِ يعذبني يومي وأشقى بأمسهِ ويسلمني يومي الى الحزنِ في غدي فلو راحلٌ يفدى لكنت افتديته بنفسي وما أُغلي وما ملكت يدي أناجي القبور الغافياتِ ومهجتي على جدثٍ قد ضم أُنسي وسؤددي أناجيك في لون الغديرِ إذا صفا وألقاك في إشراقِ قنديلِ مسجدِ وأصغي الى همس النسيم كأنني لدى وشوشات الحب أُصغي لمنشدي واستنطقُ الورد الشذيّ وقد حكى خلاَلك في نشرِ العبير الُمبدّدِ فأرجع لا قلبٌ يقرُ قرارهُ ولا الصبر في ليلِ العذابِ بمسعدي عدمتُ الوفا إن اسلمتني يد النوى لسلوة يومٍ أو سرور بمشهد وإن طاب لي صفو الحياة ولينُها وإغفاءةٌ في أعينٍ لم تُسهَّدِ أغالب أحزاني العطاشَ إلى البكا فيغلبني حزني وينأى تجلُّدي سأبكيك ما أحيا بحُرقة والهٍ ولوعة ذي ثُكل وثكلي بواحد وان كان لا ثكلٌ كثكلي في الورى ولا حُرقتي مرّت بجفن مُسهدٍ أناجيك بالود الذي كان بيننا وبالأفق الأسمى وبالخُلق الندي وألصق خدي بالتراب لعلني أشمُ شذا إنشاد بيتٍ مغردِ محبوك غرقى في الدموع وحزنُهم طويلٌ كما احزانها أمُّ واحدٍ إذا ما تنادوا للقا عصفتْ بهم لواعج تستدعي الهمومَ وتبتدي وإن عُقدت بالمنتدى الرحبِ ندوةٌ فما أوجعَ الذكرى على قلبِ مُنتدي تعبتُ وما في الكأس فضلٌ لشاربٍ وما في النديّ السمحِ صوتٌ لمنشدِ عليك من الله الرضا وسلامُه وحفت بك البُشرى تروح وتغتدي ومدَّ عليك الله ظلَّ اصطفائهِ بما قد وقفتَ النفسَ موقفَ منجدِ. لمراسلة الكاتب: [email protected]