منذ قديم الزمن أدرك العرب أن الأم هي نبع المحبة وينبوع الحنان.. وأدرك عقلاء العرب أن المرأة أشد وفاء ورقة وحناناً لأن الأصل في تركيبة المرأة هو (الأمومة) فهي غريزتها وحقيقتها وما تنطوي عليه جوانحها سواء أنجبت أم لم تنجب فإن روح الأمومة مركوزة في طباعها تجري في دمائها وتهيمن على بواعثها وتصرفاتها وهي الهدف الحقيقي في حياتها ولهذا فإن خلاصة حياة المرأة حب وألم وإيثار وإخلاص وتضحية.. وحدهم الأجلاف من الرجال لم يكتشفوا تلك الحقيقة الرائعة في حياة المرأة.. ووحدهم الأجلاف هم الذين يخرجون المرأة من طورها ويجبرونها على أن تتخلى عن طبيعتها بسوء معاملتهم لها وعدم تقدير جوهر الأمومة الكامن في أعماقها.. وحدهم الأجلاف من يدوسون على الورود والأزهار بأظلاف ثقيلة كالسكاكين لا تعرف فرقاً بين الأشواك والأزهار.. ملايين النساء متن وهنَّ يضعن أولادهن.. هاتوا لنا رجلاً واحداً فعل ذلك!!.. هل هناك تضحية أسمى من التضحية بالحياة ؟ تجود بالنفس إن ضَنَّ الجواد بها والجود بالنفس أسمى غاية الجود ورغم أن كثيراً من الجيل الجديد يظنون أن العرب لم يعرفوا قدر المرأة، ولم يقدروا ما تتصف به من وفاء.. وتضحية.. وإيثار.. وحنان.. إلا أن كثيراً من شواهد الأدب العربي والمأثور الشعبي.. من أشعار.. وقصص.. وحكم.. ومواقف.. وأمثال.. تدل على أن كثيراً من العرب قدروا المرأة وعرفوا لها شرف الأمومة وفضيلة الوفاء وتوهج الإخلاص وصدق التضحية والحرص على سعادة الأسرة حتى صح أن نعدل بيت المتنبي الشهير ليكون على هذا النحو: (نعيب «نساءنا» والعيب فينا وما «لنسائنا» عيب سوانا) فمن يعط المرأة درهماً من الحنان تعطه بالقنطار.. ومن يعامل المرأة باحترام تملأ حياته بالتقدير والامتنان والاحترام.. أما الذي يبخس حق المرأة.. ويهملها ولا يقدرها فقد جنى على نفسه لأن سعادة الرجل في يد المرأة.. والذي نريد تأكيده أن العرب - بفضل الإسلام الحنيف - عرفوا قدر المرأة الرفيع أكثر من الغرب، فأكرموها وصانوها، بينما المرأة في الغرب تشبه السلعة، بل نرى في إعلاناتهم أن السلعة الرخيصة أغلى منها ومن كرامتها، فهي تظهر شبه عارية في دعاية لصابون أو مناديل أو عطر أو أي سلعة، وهي تمتهن في التسويق للأغاني كبرواز مهمل، في الوقت الذي يحافظ فيه العرب والمسلمون على كرامة المرأة أشد المحافظة، ويضعونها في عيونهم، ويعتبرونها عرضهم ورمز شرفهم.. ويكفي المرأة فخراً وشرفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجنة تحت أقدام الأمهات) ويكرر ثلاثاً (استوصوا بالنساء خيراً) ويقرر (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).. وفي الشعر الفصيح والشعبي نجد مراثي حارة للزوجة المغادرة إلى الآخرة. هنا قد يبكي الرجال كما يبكي الأطفال.. وكثير من الرجال عندنا وفي مجتمعنا إذا ماتت زوجة أحدهم قبله أصابه الألم العنيف والحزن العميق حتى يضربه الاكتئاب ويصاب بالأمراض فلا يلبث أن يلحق بها.. * يقول محمد بن عبدالملك وزير المعتصم بعد أن ماتت زوجته، كأنه طفل يبكي مع أطفاله: ألا من رأى الطفل المفارق أمه بعيد الكرى عيناه تبتدران رأى كل أم وابنها غير أمه يبيتان تحت الليل ينتجيان وبات وحيداً في الفراش تحثه بلابل قلب دائم الخفقانِ فلا تلحياني إن بكيت فإنما أروي بهذا الدمع ما تريان وقبله قال جرير قصيدة طويلة يرثي فيها زوجته (خالدة) وكنيتها (أم حزرة): لولا الحياء لهاجني استعبار ولزرت قبرك والحبيب يزار وكأن منزلة لها بجلاجل وحي الزبور تجده الأخبار ولهت قلبي إذ علتني كبرة وذوو التمائم من بنيك صغار أرعى النجوم وقد مضت غورية عصب النجوم كأنهن صوار يا نظرة لك يوم هاجت عبرة من أم حزرة بالنميرة دار كانت مكرمة العشير ولم يكن يخشى غوائل أم حزرة جارُ ولقد أراك كسيت أجمل منظر ومع الجمال سكينة ووقار والريح طيبة إذا استقبلتها والعرض لا دنس ولا خوار صلى الملائكة الذين تخيروا والصالحون عليك والأبرار وعليك من صلوات ربك كلما نصب الحجيج ملبدين وغاروا ولعبدالسلام بن رغبان الحمصي (عباسي) يرثي زوجته ويوضح أثر موتها الذي قضى عليه: أساكن حفرة وقرار لحد مفارق خلة من بعد عهد أما والله لو عاينت وجدي إذا استعبرت في الظلماء وحدي وجدّ تنفسي وعلا زفيري وفاضت عبرتي في صحن خدي إذن لعلمت أني عن قريب ستحفر حفرتي ويشق لحدي وصدرت دواوين كاملة في رثاء الزوجات مثل (أنات حائرة) لعزيز أباظة، و(من وحي المرأة) لعبدالرحمن صدقي، و(حصاد الدمع) لمحمد رجب البيومي، و(بلقيس) لنزار قباني.. ولشاعرنا محمد بن عبدالله بن بليهد وقد توفيت زوجته سنة 1342ه تقريباً: رعاك الله بعدي من فقيد عزيز لا يباع ولا يسام فمالي بعد رحلتكم مراد بتلك الدار بذكر أو مرام ولسلطان بن نمر (من عرقة) في رثاء زوجته: يا معمر الدنيا ترى الوقت غدّار خسران يا من باع دينه بدنياه يا قبر جيتك في دجى الليل خطّار بشوف من حطو وسادة رواياه لولا الحيا لا بني على القبر لي دار ولاتمّ عنده جالس ما اتعداه وللشيخ قاسم آل ثاني في رثاء زوجته نورة: كم عبرة في زفرة ضمها الحشا تفككت منها القفول الصلايب على جادل مذعورة ضمها الثرى وقد كان ضمتها صنوف الأطايب فلو يفتدى بالمال والملك كله فديناه به لو كان تظهر سلايب ولو تنقسم الأيام بيني وبينه مما بقي هانت عليّ المصايب (الله لا يظهر غلاك) وإنما استشهدنا بالرثاء لأنه أصدق الشعر.. ونتمنى أن يظهر كل رجل غلا زوجته وهي على قيد الحياة، فإن ذلك يجعل المرأة تعطيه روحها وتحبه وتحرص على سعادته.. والمرأة تستحق ذلك كله لأنه هي التي تهب الحياة بإذن الله تبارك وتعالى.