دعني أسألك أولاً؛ هل تعرف الفرق بين السؤال والتساؤل؟ - السؤال استفسار عابر تطرحه على شخص آخر لمعرفة الجواب. - أما التساؤل فسؤال تطرحه على نفسك في حالة من الحيرة والاستغراب (وقد لا ينتهي بمعرفة الجواب)! .. نطرح "السؤال" حين نعجز عن الإجابة فنطلبها من الآخرين.. أما "التساؤل" فآلية بحث ذاتيه تتضمن لماذا؟ وكيف؟ ومن؟ ومتى؟.. "الأسئلة" تطرح علناً ولا يستهجنها الناس حولك (طالما اتفقت مع سياقهم الاجتماعي والثقافي) أما "التساؤلات" فتطرحها سراً مع نفسك حين تعارض سياقها الثقافي والاجتماعي. "السؤال" يمنحك إجابة سريعة، وجاهزة، ومسبقة الصب يقدمها غيرك.. في حين "التساؤل" يستغرق منك وقتاً طويلاً قبل أن تعثر على الجواب بنفسك وقد تموت حائراً قبل حصولك عليه. "التساؤل" يقف خلفه عقل شجاع، وذهن جريء، ودافع حقيقي لمعرفة الجواب.. أما "السؤال" فغالباً مايكون عابراً أو طارئاً أو مستعاراً أو نتاج عقل فارغ (فحُق لأبي حنيفة أن يمد قدميه)!! وحين تتلقى الجواب من غيرك؛ قد تقتنع به وتتبناه، وقد لا تقتنع به ولا تتبناه.. ولكن حين تتساءل بنفسك تقتنع بجوابك بنفسك - كونه نابعاً من ذاتك - فتدافع عنه وتحاول إقناع الآخرين به! .. يسألني كثير من الأصدقاء لماذا تطرح في مقالاتك الكثير من المعلومات والتساؤلات؟.. فأجيب: كي يعثر القارئ على الجواب بنفسه.. انتهى زمن الأستاذية ولم يبق للكاتب غير إثارة "التساؤل" في رأس القارئ وتركه يستنتج الجواب بنفسه.. وحين يصل للجواب بنفسه؛ سيقتنع به أكثر مما لو أخذه من أعظم الفلاسفة والمفكرين. قصص الأنبياء تبدأ دائماً بتساؤلات عظيمة حتى يعرفوا أجوبتها بأنفسهم فيقتنعوا بها ولا يتنازلون عنها (وَاللَّهِ يَا عَمِّ، لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ مَا ترَكْتُهُ).. كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يتساءل في غار حراء حتى سمع من جبريل إجابات توصل لبعضها بنفسه.. وكان إبراهيم عليه السلام في حالة تساؤل دائم واتخذ من الشمس والقمر إلهين قبل أن يكتشف ربه في قمة حيرته "لئِن لمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُوننَّ مِنَ القوْم الضَّالِّين"!! .. كتب كثيرة ألّفت في الماضي والحاضر بطريقة السؤال والجواب، غير أن أعظم من طرح "التساؤلات" بعد أرسطو وأفلاطون كان فيلسوف الأدباء أبو حيان التوحيدي (310 - 414ه).. فقد أشرك القارئ في تساؤلات كثيرة حول النفس والروح وأسرار الوجود وخفايا اللغة وأخلاق الناس ومناهج التفكير وعلاقة الفلسفة بالدين - خصوصاً في كتاب "الهوامل والشوامل" الذي تضمن أكثر من 175 تساؤلاً من هذا النوع.. وتبدو كتب التوحيدي مقنعة أكثر من غيرها؛ لأنه يشرك القارئ في طرح تساؤلات تشغل بال الجميع فيتبنى في النهاية موقفه بلا تردد! .. مايهمك أنتَ - من كل هذا الكلام - أن تتوقف عن طرح المزيد من الأسئلة وتبدأ بطرح المزيد من التساؤلات. أن تتوقف عن سؤال الآخرين رأيهم في كذا وكذا، وتبدأ بسؤال نفسك عن كذا وكذا، وكيف، ولماذا، ومتى؟ لا تكذب على نفسك أو تتجاهل أسئلتك أو تدفن رأسك في الرمال.. اطرح أسئلة شائكة يصعب طرحها علناً وكن صريحاً في إجابتك عنها.. فكل جواب (تعثر عليه بنفسك) سيكبر معه عقلك، ويرتاح بفضله فؤادك، ويخاف بسببه أساتذتك. .. السؤال بحد ذاته ليس عيباً.. ولكن اعتمادك الدائم عليه، وتبنيك الدائم لأجوبة الآخرين، يعني أنك أجّرت عقلك، وقيّدت رأيك، وتجاهلت صوت المنطق في رأسك.. وهذا هو العيب فعلاً.