تحكي أساطيرنا الشعبية، أن مريضاً ظل يعاني مدة طويلة من آلام في البطن... ولم تُجد معه أدوية الأطباء، والعطارين، ولا رقُى المشعوذين، والسحرة. وقرر أهل هذا المريض المسكين، أن يضعوا حداً لمأساته وذلك بأن يفتحوا بطنه ليعرفوا كُنه هذا المرض..!! فذُكر لهم طبيب يجيد فتح البطون، فذهبوا إليه مستغيثين لمعالجة ابنهم الذي أتلفه المرض.. حضر الطبيب، وأخرج أمواسه، وسكاكينه، ومشارطه، ومقاصه، وشرع في فتح البطن!! فلما شقه شقاً لائقاً، اطلع على ما في جوف المريض، وأخبرهم بما وجد.. ثم أخذ يجمع أدواته، ونهض تاركاً البطن مفتوحاً..!! فصاح به الأهل مستنكرين هذا الفعل الشنيع..! ولكنه رد بهدوء وثقة وحزم قائلاً: انتم طلبتم مني شق البطن ولم تطلبوا مني خياطته..!! وأنا فتّاح بطون فقط.. أما الخياطة فلا أجيدها..!! أتذكر ذلك الطبيب شقاق البطون.. كلما رأيت الرئيس الأمريكي السيد بوش وهو يطل من خلال الشاشة يقطب وجهه حيناً، ويصر عينيه، يتحدث بحماسة عن أهداف الحرب العراقية.. فمرة يقول إنها من أجل البحث عن أسلحة الدمار الشامل التي تهدد أمريكا، ومرة من أجل محاربة الإرهاب الذي يهدد أمريكا، ومرة من أجل الديمقراطية والحرية في المنطقة، والتي يجب أن ترسم خارطتها من جديد وفقاً لمقتضيات الديمقراطية والحرية الأمريكية، ومرة يعلن ان الحرب من أجل مصالح أمريكا الاقتصادية، وأخيراً فإن الحرب كانت دفاعاً عن أمن أمريكا. وبالمناسبة فأمريكا تدخل الحروب دائماً بحجة حماية «الحياة الأمريكية المهددة».. فلقد طلب الرئيس الأمريكي روزفلت من الكونجرس سنة 1937 عشرات المليارات لتسليح الجيش الأمريكي لخوض المعركة ضد الألمان بحجة حماية أمريكا!! إذاً فلغة أمريكا السياسية والعسكرية والتاريخية واحدة: محاربة الشر، والخوف على أمن أمريكا.. حتى ولو كانت الحرب مع بلد مستضعف مثل لاوس أو العراق، البلد المحطم، والذي تفصله آلاف الأميال عن نيويورك ولوس أنجلوس..! ولكنها المطامع والقوة التي قال عنها هتلر: «عندما يكون أحد الشعوب قوياً فإن في وسعه أن يقتل من دون عقاب»... وها هي أمريكا تقتل وتبيد، دون عقاب. لقد شقت السيدة أمريكا البطن الأفغاني ولم تترك فيه شيئاً إلا مرارته في كابل.. وشقت البطن العراقي شقاً يصعب على أمهر الجراحين خياطته ورتقه. فلقد حرثت المجنزرات، والدبابات، وصواريخ الطائرات أرض العراق، وملأته بالذعر، والخوف. فأحياء المدينة الواحدة صارت كتلاً، وتجمعات، ومفارز، وكتائب، وفيالق، بعضها يحارب بعضاً.. وما بين القرية والأخرى مهالك، ومغارات للموت. فالطرقات ملغمة، والبساتين والحقول مزارع للمتفجرات، والحرائق ولهيب النيران. والفلاح الذي يحرث الأرض ويسقي الزرع غطت سماءه سحائب تمطر القنابل، والشظايا، والرصاص، وعزرائيل..!! ها هو العراق ذو الجغرافية التاريخية الموحدة أرضاً وبشراً، يتحول إلى لوح زجاجي سقط على أرض رخامية.. يتفتت ويتبعثر، ويتجزأ، يتحول إلى طوائف من الفتن، والكراهية والدماء التي لن يغسلها الجراح الأمريكي الأهوج.. ففي كل شارع مجزرة، وفي كل واد فتنة.. لقد جمعت السيدة أمريكا كل وسائل الشق، والبقر، والفتح، فحشدت كل ما تمتلكه من ترسانة الأسلحة الأمريكية من أدوات تفجير، وتدمير، وجرف، وحرق، وإبادة، وأغارت بها بكل صلف المتجبر، المستوحد، على المدن والقرى!! تخيلوا عشرين طائرة تغير على قرية لا يتجاوز عدد سكانها ألفي شخص..!! بدون حسيب ولا رقيب.. ولا من يقول لها: أين أنت ذاهبة..؟ بل أصبح السؤال نوعاً من الكفر والإلحاد السياسي.. وراحت تمزق أوصال العراق البائس المنكوب.. العراق العاري، المكشوف، والذي لم تعد تقيه أرض ولا سماء، من هذه الوحشية الأسطورية لإنسان الحضارة الغربي في قرنه الواحد والعشرين..!! هذه الحضارة المرتبكة المضطربة، المتخبطة، في تعاملها مع آدميي الكرة الأرضية، وبالذات آدميي الشرق الأوسط..!! هذه المنطقة التي حُولت أجزاء منها إلى مقصبة أو «سلخانة» يتولى مهمة الذبح والسلخ فيها جزارون، وسفاحون محترفون، يقومون برياضة ذبح أهلها بطريقة أبشع من صيد وذبح الخنازير البرية.. حينما كنا نحذر من هذه الحرب قبل بدايتها كان المبشرون والمطبلون لأمريكا من كتابنا يسخرون منا ويستهزئون، وربما اتهمونا بأننا نحمل أفكاراً متطرفة، وكانوا يزعمون أن أمريكا سوف تحول المنطقة إلى أنهار تسيل بالعسل واللبن.. فإذا بها تسيل بالدماء والجثث!! من يستطيع الآن تضميد الشق العراقي، وخياطته ورتقه..؟ كيف والموت يتناسل، والخراب يعم، والحرائق تلتهم الأخضر واليابس..؟ فيا لقلوب الأمهات العراقيات، ويا لعراق التاريخ من ويلات حرب طائفية ملعونة تلفه في ليل الفتنة، وسوء المصير. ٭ نبوءة لبدر شاكر السياب «أرى الفوهات التي تقصف.. وينهلّ كالغيث ملء الفضاء رصاص، ونار، حديد ونار.. حديد ونار، وثم ارتطام وثم انفجار.. ورعد قديم ورعد بعيد.. وأشلاء قتلى وأنقاض دار.. حديد عتيق.. رصاص حديد.. لمن كل هذا الرصاص؟ وأبناء بغداد والآخرين.. إذا ما أرادوا الخلاص.. حديد.. رصاص، حديد عتيق، ورعب جديد..»