جميعنا يعرف ويدرك أسباب الموت والفناء التي تعددت في هذه الدنيا، وكلنا لا ينكر أن من بين الأسباب التي تعددت، واسْتَحَرَّ بها القتل في الناس حوادث المرور وتحديداً حوادث المركبات التي لا تحيد عن إحدى نتيجتين كما يقول المثل الشعبي: (إما غَيَّبَتْ أو عَيَّبَتْ). غير أننا جميعنا وكلنا لم نعرف ولم ندرك ولم نسمع في كل أصقاع الدنيا وجميع بقاع الأرض عن حوادث خاصة بالمعلمات!! إننا نكاد أن نسجل في سيرة الحوادث لدينا أن هناك نوعين بارزين: أحدهما يلتهم كافة المواطنين دون تحديد، والآخر متخصص في التهام المعلمات. إننا لا نكاد أن نفيق من حادث ذهب ضحيةً له جملة ٌ من خيرة المعلمات ومن مختلف الأعمار، حتى نفجع بحادث مماثل! إلى الحد الذي أمست معه هذه الحوادث شبه موسمية تتزامن فصلياً مع أوقات الدراسة والطلب!. هنا.. ينتصب السؤال الحاد جداً: أين تكمن المشكلة ؟ ولماذا تحولت بمرور الزمن إلى إشكالية يبدو حلها مستعصياً إلى درجة الاستسلام لما يحدث والالتجاء إلى صمت العجز ومهادنة المستحيل؟ !. أسارع الآن، وأُذَكِّرُ بأننا جميعنا مؤمنون بالمقدر والمكتوب، وبأن ما يجيء من ربنا كله خير وأجر ومثوبة، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا (إنا لله وإنا إ ليه راجعون)، غير أننا مطالبون - بَشَراً مُنِحْنا عبقرية التفكير والتدبير- بأن نعالج كل ما يواجهنا في هذه الحياة بالعقل والحكمة وتجنب المكروه وتفادي التهلكة، والمولى يتولانا برحمته.. لاشك ولاريب. إن هذه المناظر المتوالية وهذه المشاهد المتكررة المؤسفة لتلك المركبات، ولتلك الكتب والمذكرات والمستلزمات المتناثرة، ثم لتلك الأجساد المغطاة على قارعة الطرق أو تلك المنقولة إلى المشافي، إنها تجسيد لوقوفنا بين سندان العجز ومطرقة الأحداث، وعدم تمكننا من إيجاد الحلول، وخلقها.. وغياب مقدرتنا على تحقيق المطلوب، واستحضار الممكن من منافي المستحيل. أعتقد جازماً أن من حق تلك الدماء المطلولة، وتلك الأجساد المسجاة، وتلك الحياة والآمال التي دفنت ثم محيت ذكراها أن نوقف هذا المسلسل المحزن من السلبية وقلّة الاهتمام. إن تلك الملفات التي يكون مصيرها الحفظ الأزلي بأيدي شريحة من موظفين لا يهمهم في كل يوم سوى أن تنطلق صافرة انتهاء الدوام لكي ينطلقوا لتناول الغداء، والعبث ببقية اليوم بأي شكل.. إنها -- أي تلك الملفات -- خير شاهد وأصدق دليل على أن هناك من يعرض بناتنا بتفريطه للموت والفناء والإعاقة.. وتتشكل خيوط المأساة من جديد، ويستمر مسلسل الفقدان كما ينبغي لليأس والقنوط. لقد تذكرت الآن وأنا أختم هذا التناول أن عبارات التميز والغيظ والرفض مثل (لقد بلغ السيل الزبى)، و(لم يعد هناك صبر وتحمل)، و (وانتهت حدود الاحتمال) لم يعد لها رصيد.. إذاً المسألة والقضية برمتها غادرت دائرة الأخذ والرد، وأمست في محاورها كافةً بلا طعم ولا لون ولا رائحة، وأمسى الحديث والكلام لا يطاق. ولئلا يتصف هذا التناول كذلك بالتجاهل والتعميم غير المنصف، نعترف كلنا بأن هناك مسؤولين لا يهدأ لهم بال، ولايقر لهم قرار، ويأكل الهمُّ عديداً من أيامهم ولياليهم، غير أن الحال والواقع والتجارب المؤلمة تتطلب شفاء وعافية ومبادرات تزيل رهق المأساة.