ما أجمل أن تحل البركة في البيت! وما أجمل أن يتذكر الإنسان الأيام الخوالي في مقتبل العمر، حيث البساطة، والبعد عن التعقيدات والشكليات، وحيث كان الحب والمودة، وسلامة الصدر للآخرين ترفرف في جنبات حياتنا، تظلل حياتنا في تلك الشوارع الضيقة، والحارات القديمة، وتحيط بنا نحن وجبراننا الطيبين. ما زلت أذكر دعوات الوالد - رحمه الله - لنا بالخير والتوفيق والصلاح، ولا سيما تلك الدعوات التي كان يخص بها إحدى أخواتي، فقد كانت تلك الأخت - حفظها الله وأدام عليها بركته - كانت تعتني بنا في صغرنا، وفي دراستنا، مع أنها لم تتلق من التعليم إلا النزر اليسير، لكنها كانت شعلة من النشاط، تنظف البيت وتعد الطعام، وتوجه وتنصح، وتعلم، وتقوم بإعداد كتبنا ودفاترنا، وتجهيز حقائبنا. وأما برُّها بالوالد - رحمه الله - وإحسانها إليه، فكان مضرب المثل. والذي دعاني إلى الحديث عن هذا الموضوع أنه قفز إلى خاطري فجأة حديث للوالد - قبل وفاته، حيث أخبرني بموقف لها معه، وكانت منزلتها عنده لا تبارى. كان رحمه الله يعمل في المزرعة، وبعد العشاء يرجع إلى البيت متعباً من أثر الكد والسعي في طلب العيش. وكان - رحمه الله - بعد أن يتعشى يصعد لينام على سطح المنزل، فكانت أختي تأتيه - بعد فراغها من عمل البيت لتقوم بتدليك رجليه حتى تخفف عنه آلام العمل والكد، فتظل تدلكهما حتى يغلبه النوم. وكان رحمه الله يقول لها: كفى يا بنيتي. فتستأذنه وتذهب. وفي ليلة من الليالي، وأثناء قيامها بتدليك رجليه، غلبه النوم دون أن يطلب منها الاكتفاء بما فعلت، فجلست تدلكهما حتى استيقظ الوالد على أذان الفجر فوجدها مستمرة في التدليلك، فانجفر الوالد في البكاء من شدة تأثره لما بلغ برها به. وقد ذكر لي الوالد هذه الواقعة قبل وفاته. وقد تزوجت تلك الأخت، وبارك الله لها في زوجها، وأولادها، وحياتها. فأسأل الله أن يحفظ لها ثواب البر، وأن يخلفها عنه في ولدها، وأن يلهم جميع المسلمين البر بوالديهم، فإن ذلك من أعظم أسباب الخير والفلاح. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين