فجعت أسرة الدوسري خاصة ومدينة بريدة عامة بوفاة الشيخ محمد الدوسري عن عمر يناهز خمسة وثمانين عاماً ، وهذه نبذة مختصرة عن حياته . هو الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن عبد الله الدوسري ( من الشوائق الرجبان الدواسر ) قدم والد جده محمد بن عبد الله إلى بريدة من وادي الدواسر عام 1265 تقريباً بسبب فتنة وحروب نشبت بين جماعته ، واستقر في مدينة بريدة هو وأولاده وأحفاده فيما بعد مكوناً أسرة عملت في الزراعة ثم في الصناعة ، واشتهرت بالكفاف والتعفف ، وغلب على أفرادها التدين مما جعل أكثرهم يقومون بمهمة الأذان والإمامة والخطابة والوعظ والدعوة في عدد من مساجد بريدة وأريافها إلى اليوم . وفقيدنا الشيخ محمد ( أبو إبراهيم ) من مواليد مدينة بريدة عام 1348 . ونشأ في أسرة فقيرة فوالده من الزهاد وأهل الدين والعبادة ، وتولى مهمة الأذان في مسجد الرويبة جنوب غرب السوق المركزي ببريدة ، ووالدته ( منيرة ) امرأة صالحة اشتهرت بالرقية على النساء ولها في ذلك مواقف غريبة ، وقد حرص على إلحاق أبنائه بالكتاتيب وحثهم على ملازمة العلماء والأخذ عنهم ؛ رغم حاجته إلى مساعدتهم له ، فقد كف بصره في شبابه فكانوا يعملون معه بعد عودتهم من دروسهم وحلقهم . مما أتاح للشيخ محمد أن يحفظ القرآن الكريم حفظاً مجوداً ومتقناً في بواكير شبابه ، وكذلك ، أخوه الأصغر عبد العزيز مؤذن مسجد الخضير مدة أربعين سنة ، أما أخوه الأوسط عبد الله فلم يتيسر له إكمال الحفظ ؛ بسبب إنشغاله بالكد والعمل لإعالة والديه وإخوانه ، وكانت أختهما الوحيدة ( هيلة ) تحفظ أجزاء كثيرة من القرآن وفي بواكير شبابه بدأ بطلب العلم على عدد من المشائخ وعلى رأسهم قاضي بريدة سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد وفضيلة الشيخ علي بن إبراهيم المشيقح وفضيلة الشيخ محمد بن صالح المطوع والشيخ إبراهيم بن عبيد العبد المحسن رحمهم الله جميعاً . وقد تولى خلال الفترة من عام 1372 حتى عام 1422 الأذان والإمامة في عدد من المساجد في مدينة بريدة منها ( مسجد ماضي ومسجد الفداء ومسجد الحجيلان ومسجد العقيلي منها ثلاثون سنة إماماً وخطيباً في جامع ابن تركي بحي الجربوع جنوب بريدة ) ويؤم المصلين في هذه المساجد في صلاتي التراويح والقيام . وكان خلال قيامه بالأًذان والإمامة يجلس لتدريس القرآن الكريم والسنة النبوية والدروس المهمة ؛ فتخرج على يديه عدد كبير من طلبة العلم وغيرهم . وله مع القرآن شأن عجيب ، اذ كان كثير التلاوة حفظاً في جميع أحواله ولم يحمل المصحف لمراجعة آية طوال ما يربو على أربعين سنة . وقد حرص على أن يأكل من كسب يده ، وعاش عيشة الكفاف ، ولم يكن له طول حياته أي حساب بنكي . بل إنه من زهده في الدنيا وزع كل ما لديه من مال وعقار ( على قلته ) بين زوجه و أولاده قبل وفاته بما يقرب من عشرين عاما . وقد تميز - رحمه الله - بالتواضع والبشاشة وإفشاء السلام على الصغير والكبير ، إلى جانب طيب المعشر والتودد إلى الناس واحترامهم وتقدير مشاعرهم ؛ مع إسهامه بالاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والحرص على ملازمة مجالس العلماء والإفادة منهم . وقد اعتنى بتربية أولاده ، وحرص على تعليمهم ، فاصبح منهم اليوم ثلاثة من طلبة العلم يقومون بالإمامة والخطابة ، والبقية معلمون وموظفون ، ولم تكن تربيته لهم وعظاًً أو زجراً أو تأديباً ؛ بل رباهم بالقدوة فكان سلوكه خير واعظ ، وسيرته أبلغ ناصح ، ومنذ أن وعيت الدنيا ولنا موعد في الهزيع الأخير من الليل مع صوته الشجي مرتلاً آيات الله في صلاة التهجد ، ولم يترك سنة الاعتكاف منذ بواكير شبابه حتى ضعفت قواه وكل بصره وبدأ يعتريه النسيان فاستجاب لرغبة الوالدة التي ألحت عليه فترك هذه السنة مكرهاً ، لكنه لم ينقطع عن ملازمة التلاوة والذكر . أما أسلوبه في البيت فكان هيناً لينا غير صخاب ولا مزعج ، قنوعاً باليسير من الزاد ، مع أن الله قد زرع له المحبة والهيبة والتقدير في نفوس أهل بيته وعارفيه وزملائه وجيرانه. وغلب على حياته حب الخلطة ومجالسة النظراء والأقران والخروج إلى البر للنزهة ولم يمنعه من الإكثار من ذلك إلا حرصه على الالتزام بإمامة مسجده فلم يتركه إلا لعذر قاهر أو مرض . أما علاقته بشريكة حياته فقل أن يوجد لها نظير من احترام متبادل وعشرة طيبة ، وما رأيت تقديراً بين زوجين كما كان بينهما ، وقد سبقته زوجته إلى الدار الآخرة بعشر سنين ، فكان لذلك أثر بالغ في حياته . إذ بدأت صحته بعد ذلك تتدهور وأصيب بضمور في بعض خلايا المخ مما جعله ملازماً للسرير الأبيض يقضي وقته في الذكر وتلاوة القرآن حتى ضعف عن ذلك ، وبقي على هذه الحالة حتى أسلم الروح لبارئها قبيل طلوع فجر يوم الأحد 18/4/1433 وصلي عليه بعد صلاة العصر في جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب ببريدة ، وشهد جنازته جمع غفير غصت بهم الجنبات ، وتسابقوا إلى جنازته حاملين مشيعين ، تلهج ألسنتهم بالدعاء والثناء وتوافد على بيت أكبر الأبناء د إبراهيم جموع غفيرة من المعزين من العلماء والأعيان والأصحاب والجيران كباراً وصغاراً ،ذكوراً وإناثاً ، فكانت لكلماتهم أطيب الأثر في مواساتنا ، كما كان الاتصال الكريم من لدن صاحب السمو الملكي أمير المنطقة معزياً للعائلة أبلغ مواساة . وبهذه المناسبة نتوجه بالشكر الجزيل لهم جميعاً ، وهذا ليس بمستغرب على مجتمعنا الإسلامي المترابط ؛ ويؤكد ما يحظى به الفقيد من منزلة وتقدير لدى الجميع . رحم الله الفقيد ، واسكنه الفردوس الاعلى من الجنة ، وجبر مصابنا به ، إنه سميع مجيب . ابنه المفجوع به / صالح بن محمد الدوسري ( خطيب جامع العباس ببريدة ) مدير مكتب المؤسسة الخيرية للأيتام بالقصيم بريدة . الثلاثاء 19/4/1433ً