سألت رفيقي ومضيفي في بيته عن سر الابتسامات المشرقة، والوجوه الوضاءة والتسابق العجيب من أولاده كباراً وصغاراً لخدمته، وطاعته، واحترامه، وتقديره. التفت إليّ قائلاً: كل هذا الذي تراه يا أبا خالد من بركات والديّ، فقد كانا صالحين، تحل البركة منّ الله عليّ وعلى أولادي في كل أحوالنا بسبب بري بهما، سكت قليلاً، ثم استطرد يقول: كنت موظفاً صغيراً، أتقاضى راتباً متواضعاً جداً. لكن البركة من الله تعالى حلّت في هذا الراتب، كان أبواي يسكنان معي. وأقسم أنني كنت أقعد بين والدي وأولادي، وما كنت أبداً آكل أو أشرب قبلهما. بل كنت أقدمهما في كل الأحوال، أقدم حاجاتهما على حاجاتي وأتفقدهما قبل نومهما، وعند استيقاظهما، وكنت أدخل عليهما صباحاً فأقبل رأسيهما، ثم أيديهما، ثم أنزل لأقبل أرجلهما، وخصوصاً عندما يكونان في حال المرض. إلا أن أبي رحمه الله كان يأبي عليّ تقبيل رجليه، تكريماً لي ، واستحياء مني. وكنت أشعر بسعادة بالغة وأنا أقوم على تسليتهما في ليالي الشتاء الباردة. كنت أدخل على من أجده مستيقظاً منهما، فأقعد معه في غرفته، نتحدث عن الأيام الخوالي، والذكريات الطيبة الحلوة. كنت أذكر أبي برحلاتنا صيفاً وشتاء، وأنبسط معه في الكلام عما يحب، وأنتقل معه إلى حكاياتنا وقصصنا ونحن صغار، فلا أزال أحدثه حتى يغلبه النوم. ثم أنتقل إلى الوالدة الحبيبة فأحدثها حول ذكرياتنا صغاراً، وأحوال إخوتي وأخواني، وجيراننا، وغير ذلك، وأقوم بتدليك يديها ورجليها. وعندما مرضا أخذت إجازة طويلة من عملي حتى أتمكن من السهر على خدمتهما وراحتهما، حتى فارقا الدنيا، وانتقلا إلى جوار ربهما. سكت محدثي قليلاً، ثم قال: يا أبا خالد، كانت أيام أنسٍ وحبور لا تنسى، وكانت أيام سعادة ورضى، مرت سريعاً حتى فارق والداي هذه الدنيا، وبقيت أعيش ذكراهما. وبقيت دعواتهما الصالحة تصلني في كل حين: الله يوفقك يا ولدي، الله ييسر لك الأمور، الله يصلح لك النية والذرية، الله يسعدك ويحفظك. أشعر بهذه الدعوات تحفني على الدوام، وبأثر بركاتها في حياتي كما ترى. انسابت دمعة من عيني على خدي بسبب هذه المواقف العظيمة التي عجزنا عنها. وخرجت من بيت صديقي وقد انتصف الليل، وأنا أرفع يدي داعياً لوالدي، ولجميع المسلمين بالمغفرة والرحمة، وأردد قوله تعالى: {رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء}.