إنه بلا شك عصر الشاشة ولكن من نحن؟. هذا هو سؤال الأسئلة، بالنسبة لإنسان العصر الراهن، حيث تحيط بنا الشاشات من كل اتجاه، تواجهنا وكأنها قدرنا الذي لا فرار منه. حتميةٌ من نوعٍ ما.. هي الشاشات، من شاشة التلفاز إلى شاشة الهاتف المحمول، مروراً بشاشة عرض الحاسوب والسينما والسيارات..إلخ؛ هل هي مرآة العصر الحديث؟. لقد انتهى كل شيء تقريباً في الشاشة، العالم اختزل في هذا المسطح المضيء. شاشة "الموبايل" تحولت إلى مصب صور وأيقونات الكون في هاتف اليد. الثقافة، بتاريخها العتيد، بإرثها الورقي المغرق في القدم منذ الحضارة الصينية، إلى ثورة مطبعة غوتنبرغ 1456م، كل ذلك التاريخ الهائل، طُوِّعَ داخل الشاشة التي بدأت تخلق مزاجاً خاصاً بها للقراءة، وخاصة مع هواتف النوت وأجهزة الآيباد. لكن هذه ليست تمام الصورة، فالشاشة سرقتنا من أنفسنا أيضاً، صار السؤال والبحث في وعن الآخر أهم من الأنا ومعرفة ذاتك أنت أيها الإنسان؛ قربك من نفسك تبدد، مع طغيان عصر الاتصال الذي صير الإنسان إلى أشبه ببرميل مُثَقّب من كل الجهات. فنحن مذ نفيق إلى أن ننام وتطبيقات شبكات التواصل والاتصال تُخرِّم حياتنا في كل اتجاه، عبر هذه الثقوب التكنولوجية، فرسالة من "واتساب" وإشعار من "الأنستغرام" وآخر في تويتر..إلخ. وكل ذلك من خلال شاشاتٍ تأسرنا، تجمدنا صباح مساء، وكأننا أصنام إزاء هذه الشاشة الساحرة والجبارة في اختصارها موجز انتصار تكنولوجيا الرأسمالية الحديثة. إننا حقاً أصنام الشاشة، ندهش كل يوم، ولا حول لنا ولا قوة سوى الاستهلاك، والتلقي "السلبي"، أمام سيل منتجات الحضارة الحديثة التي نستهلكها بنهمٍ فارغٍ لمجتمعات لم تتمكن حتى اليوم، من الاشتراك في منتج الحضارة الحديثة. ولن نتوقع ذلك في المستقبل المنظور، ونحن لا زلنا نتقاتل باسم الماضوية، من نعرة مذهبية إلى أخرى قبلية. وأيضاً عبر الشاشات.. الشاشات التي غيرت حياة الناس في تعاملهم مع وسائل الاتصال. ولعل نظرية العالم الكندي مارشال ماكلوهان، تساعدنا أكثر، في تأكيد حتمية تأثير الشاشة على حياة إنسان العصر. بعد أن نتذكر مقولته الشهيرة (الرسالة هي الوسيلة) وهو يعلي من أهمية دور نوع وسيلة الاتصال في التأثير على شكل الرسالة الإعلامية، فالتقرير الخبري عن حرق الطيار الأردني في المذياع لن يكون له الأثر الأقوى كما في شاشة التلفاز، ما بالك إذا أفقت ورأيته على شاشة هاتفك المحول وقت بث الصور الأولى للحادث البشع. من هنا يكون للوسيط أهمية كبرى في شكل الاتصال. كان ماكلوهان (1911-1980) يرى أن الرسالة الأساسية في التليفزيون هي التليفزيون نفسه، العملية نفسها، كما أن الرسالة الأساسية في الكتاب هي المطبوع وما يخلق هذا المطبوع من منطق تأثير في الحواس البشرية وكذلك يمكن أن نطبق الأمر ذاته على شاشة المحمول، في الزمن الراهن. إذ إن منطق الشاشة هو الحاكم اليوم والمتحكم في سلوك الإنسان، بعد أن ارتبطت الشاشة بلا وعيه مباشرة، وكأننا نرى تطبيقاً آخر لنظرية بافلوف الشهيرة حول المثير والاستجابة وخاصة في العلاقة بين الإنسان والأجهزة المحمولة (انظر نظرية بافلوف). وأخيراً، يمكن القول، أن الشاشة بأنواعها، اللمسية أو غيرها، هي قدرنا الذي لابد أن نواجه حقيقته، الحتمية التكنولوجية التي قال بها ماكلوهان، والتي يجب أن نتفاعل معها إيجاباً عبر فهم فلسفتها فكرياً إلى جوار معايشتها حسيا أو نقبل أن نكون أصناماً الشاشات بين ملايين الأصنام البشرية. إنه الاختيار الذي لابد منه، لكي نجيب على سؤال من نحن؟ الإنسان الخالق أو صنم الشاشة.