إن دستويفسكي هو أروع مثال على خصوبة التعلُّم اندفاعًا فلم تكن معرفته بالنفس البشرية عن طريق الدراسة اضطرارًا للحصول على شهادة تَفْتح له بابًا مهنيًّا يرتزق منه وإنما كان مندفعًا للتعلُّم برغبة ذاتية تلقائية متأججة ففي مرحلة مبكرة من حياته كتب يقول: "إن الإنسان سرٌّ يجب كشفه.. يجب حَلُّه.. فإذا بقيتَ تحاول كشْفَه طول حياتك فلا تَقُلْ إنك أضعتَ وقتك.. أنا منشغلٌ بهذا السر لأنني أريد أن أكون إنسانًا" وبهذا الاندفاع التلقائي المبكر اكتشف الأعماق الإنسانية بكل ما فيها من تعقيدات وتنوُّع فصار مصْدرًا متجددًا لعلماء النفس والباحثين في الطبيعة البشرية.. هكذا هي عبقرية الاهتمام التلقائي. إن إبداعات وأفكار دستويفسكي واكتشافاته المذهلة في أعماق النفس البشرية قد لقيت من الاهتمام ما لم ينله سوى عدد محدود من المبدعين خلال عصور التاريخ كلها فقد اهتم به الفلاسفة وعلماء النفس والمحللون النفسيون ونقاد الأدب وعشاق الإبداع وقرأه الملايين في كل اللغات ومازال وسيظل محل احتفاء شديد واهتمام متجدد ليس بوصفه مهندسًا وإنما في مجال إبداعي بعيد كل البُعْد عن الهندسة.. لذلك لم يكن الدكتور جاسم بديوي مبالغًا حين قال في كتابه (إشكالية الإنسان عند دستويفسكي): "لم يُحدث الروائي دوستويفسكي فعلاً فنيًّا أدبيا فحسب بل أحدث فعلاً ثقافيًّا كبيرًا وأنتج فهمًا إنسانيا شاسعًا وشَكَّل نقطة تحول في الفهم الثقافي والروحي في الأعمال الشعرية والنصوص الفنية... كتابات دستويفسكي جاءت بمقولات حيوية وأثارت تساؤلات مرتبطة بالمصير البشري في كل زمان ومكان فضلاً عن ما قدَّمتْه من قيادة البشرية إلى مكان أوسع من الذهن البشري والوصول به إلى كشف جذور الإنسانية لتغوص في ذلك الكائن الأعظم وتكشف أسراره وتحاول حل اللغز الأبدي الذي يُسَيِّره ويفتك به ويُظهر تناقضاته المريعة". ومصداق هذا القول أن الدراسات التي صدرت عنه شملت مختلف التخصصات ويكفي أن نذكر نماذج من المؤلفات التي صدرت عنه لندرك عظمة إنجازاته فقد ألَّف عنه الفيلسوف نيقولا برديائف كتابًا بعنوان (رؤية دستويفسكي للعالم) وأصدر عنه المفكر الشهير ميخائيل باختين كتابًا بعنوان (قضايا الإبداع الفني عند دستويفسكي) وأصدر عنه هنري ترويا كتابًا بعنوان (دستويفسكي: حياته وأعماله) كما أصدر عنه جيلزنياك كتابًا بعنوان (قصص من حياة دستويفسكي) كما أصدرت زوجته آنا غريفوريفنا كتابًا يحمل تفاصيل عن حياتهما معاً كما أصدر عنه الأديب الفرنسي المعروف اندريه جيد كتابًا بعنوان (دستويفسكي: مقالات ومحاضرات) وقد استعرض البرفيسور رينيه ويليك في كتابه عن (دستويفسكي) تأثيره الواسع في الفكر والأدب العالميين كما أصدر عنه ليونيد غروسمان دراسة ضافية تستغرق (560) صفحة أما كارياكين فقد أصدر عنه كتابًا بعنوان (دستويفسكي: إعادة قراءة) أما زينكوفسكي فقد أصدر عنه كتابًا بعنوان (نظرات دستويفسكي الفلسفية والدينية) ولا تتوقف الإصدرات عنه فقد كتب عنه زيفايج وتودوروف وخالدة سعيد وستيفنز وكونز.. وكما قال د. جاسم بديوي بأن شخصية دستويفسكي: "ملأت الدنيا وشغلت الناس" إنه من أبرز الشواهد على عبقرية الاهتمام التقائي وخصوبة التعلُّم اندفاعًا وعُقم التعلُّم اضطرارًا". الفيلسوف الفرنسي إدكار موران كان شديد الإعجاب به وقد قارن بينه وبين بليز باسكال ويقول عن دستويفسكي: "إنه رجل السخرية والألم والتراجيديا الإنسانية.. وعلى نحوٍ مميَّز فَهِمَ أن الإنسان هو رجل المعرفة والحكمة.. ولأن لديه حسُّ بالتضاد الجدلي والتناقض الذي يذكِّر بالشك عند باسكال.. نجد عند شخصياته التضاد نفسه والتمزق الداخلي.. وعلى نحو ما تردَّد مما هو في عالم باسكال ذلك الصراع بين اليقين والشك .. بين الإيمان والقلق .. بين الأمل والخيبة". إن إبداعات وأفكار دستويفسكي واكتشافاته المذهلة في أعماق النفس البشرية قد لقيت من الاهتمام ما لم ينله سوى عدد محدود من المبدعين خلال عصور التاريخ كلها فقد اهتم به الفلاسفة وعلماء النفس والمحللون النفسيون ونقاد الأدب وعشاق الإبداع وقرأه الملايين في كل اللغات ومازال وسيظل محل احتفاء شديد واهتمام متجدد ليس بوصفه مهندسًا وإنما في مجال إبداعي بعيد كل البُعْد عن الهندسة ويتحدث عنه المفكر المؤرخ الدكتور شاكر مصطفى في كتابه (المستكشفون في التاريخ) فيقول عنه: "الكثيرون جدا لا يعلمون شيئًّا عن مأساته الذاتية في اكتشاف النفس البشرية.. اكتشافها ليس أقل في المخاطر ولا في الجبروت ولا في التعقيد من كشف الأرض الجديدة واكتشاف غرائب الناس.. إنه مغامرٌ في أعماق محيط أعظم يعج بما تَعْلَم ومالا تعلم من التنانين والأفاعي والأزهار السامة والجنان المسحورة والأقمار الخضراء ورفيف الفراش". ويقول شاكر مصطفى أيضا: "ميزة دستويفسكي أنه شَفَّ ثم شَفَّ حتى أضحى من خلال آلامه وشقائه بصفاء البلور وأنه عبَّر عن دخائله بكل ما فيها من نبل ومن أقذار وواجه بذلك الناس" إن دستويفسكي أذهل الباحثين ومازال يذهلهم في عمق فهمه للنفس البشرية ودقة تشخيصه لأحراش هذه النفس وما تنطوي عليه من تنوع مذهل وتعقيدات لا نهاية لها. وكَتَب عنه ميخائيل نعيمة في كتابه (في الغربال الجديد): "امتاز دستويفسكي بمقدرته الخارقة على التغلغل في النفس البشرية ونزعاتها فهو من هذه الناحية قمة بين كُتَّاب العالم أجمع ثم هو امتاز بمعالجة الأشخاص الذين بهم شذوذٌ عن المألوف فأنت تجد بين أشخاصه القديس إلى جانب المتهتك ولكنه ما خلق شخصًا واحدًا خاليا من الخير والإنسانية فقد كان يعتقد أن الخير والشر متوازيان في جميع الناس مثلما كان يعتقد أن الألم والألم وحده هو المطَهِّر الأكبر لكل ما في الناس من خساسة ورجاسة". لقد عالج دستويفسكي مختلف القضايا الإنسانية فهو مثلاً في قصة (المحاسب الأعظم) يحلل الفروق النوعية ين الإنسان في حاضره الحر المنطلق وغابره المكبَّل البائس وكما يرى هانز كوهن في كتابه (عصر القومية) بأن دستويفسكي قد لخَّص هذه الفروق بما يمكن التعبير عنه بأن: "فكرة رجل حر وعقل حر في مجتمع مفتوح وهي روح الحضارة الحديثة تمثل مغامرة جريئة وظاهرة جديدة في التاريخ ويحدِّد قبول هذه الفكرة أحد التحولات الحاسمة في كل الحياة الإنسانية.." فالسلطة بمختلف تجلياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية والتاريخية تضافرت لطمس فردية الإنسان خلال القرون وإخضاعه وترويضه وبرمجته على القبول الطوعي بكل ما يراد له أن يكون عليه أما الإفاقة من هذه الغيبوبة العامة فهي أبرز وأهم التغيرات النوعية التي طرأت على الحياة الإنسانية وقد تحققت هذه التغيرات بفاعلية الريادات الفردية الخارقة والاستجابة الإجتماعية الإيجابية الكافية وبذلك خَطَتْ الحضارةُ خطواتها العسيرة نحو التحرر والتقدم فدستويفسكي يأتي في طليعة الرواد. وننتقل إلى الفيلسوف وايتهد فقد دَرَس الرياضيات وهي أهم عنصر في الهندسة وقد أبدع في مجال تخصُّصه لأنه اتجه إليه برغبة تلقائية وعِشْق عميق ثم بمحض اهتمامه التلقائي القوي المستغرق تحوَّل إلى اهتمامات فكرية تأسيسية من أجل إنسانية أكثر انسجامًا وازدهارًا وتحضُّرًا وألف عددًا من الكتب المهمة وقدَّم رؤى وأفكارًا عميقة فصار أستاذًا للفلسفة في هارفرد فقد كان متنوع الاهتمامات وعميق التفكير على نحو باهر فَكُتُبه في فلسفة الحضارة وتأثير الأفكار الخلاقة وفلسفة الاجتماع وفلسفة التربية وفلسفة الإدارة هي مصادر لاتنضب للفكر المتوثب. وقد ألَّف عنه في اللغة العربية أستاذ الفلسفة الدكتور علي عبد المعطي محمد كتابًا ضخمًا استغرق أكثر من ست مئة صفحة فتخيَّل كم كتابًا صدر عنه في مختلف اللغات ليس بوصفه رياضيًّا وإنما عن فلسفته وأفكاره ورؤاه..؟! ويقول عنه هذا المؤلِّف بأن فكره مرَّ بثلاث مراحل وقد كان جادًّا ومنتجا بعمق وغزارة في كل هذه المراحل لقد كانت جدِّيته مذهلة ففي شبابه كان يحفظ عن ظهر قلب كتاب (نقد العقل المحض) لكانط رغم أنه بعيدٌ عن مجال اختصاصه في الرياضيات فالكتاب من أهم المراجع التي عالجت نظرية المعرفة وهي من أعمق القضايا الفلسفية وهذا شاهدٌ واحدٌ من شواهد لا حَصْر لها على أنه كان متنوع الاهتمامات وأنه شديد الرغبة في المعرفة وقد انجلى ذلك عن عملاق فلسفي باهر. إن عناوين مؤلفاته خارج مجال تخصُّصه توضح عَظَمة وتنوع إسهاماته فمن كتبه (تنظيم الفكر) و(بحثٌ في مبادئ المعرفة الطبيعية) و(تصوُّر الطبيعة) و(أصول النسبية) و(العلم والعالم الحديث) و(المذهب الرمزي: معناه وأثره) و(أهداف التربية) و(العملية والواقع) و(وظيفة العقل) و(مغامرات الأفكار) و(الطبيعة والحياة) و(أنماط الفكر) و(مقالات في العلم والفلسفة) إنه متوثب العقل ويدعو الآخرين إلى التوثب والمغامرة ويؤكد أن: "اليقين الصارم هو الذي يغتال الحقيقة" ويقول: "إن الحقيقة تموت حين يحاول الناس أن يقننوها في عقيدة ثابتة أو في نظام ثقافي تتوارثه الأجيال" ويستهجن أوهام امتلاك الحقيقة المطلقة وتجميد الفكر والحياة بهذه الأوهام الساذجة. وقد ألَّف عنه البرفيسور جونسون كتابًا يحمل عنوان (فلسفة وايتهد في الحضارة) وقد تَرجم الكتاب الدكتور عبد الرحمن ياغي.. يقول جونسون: "كان وايتهد مثالاً نادرًا فكان على اتصال وثيق بالطبيعيات وعلم الفلك والتاريخ والأدب والتفكير الديني والفلسفة بل كان متفوقا في هذه جميعًا" إن قابليات الإنسان غير محدَّدة فهي تستجيب لكل ما ينضاف إليها بشرط أن يكون الفرد مدفوعًا باهتمام تلقائي قوي مستغرق. إنه يؤمن إيمانًا عميقًا بأن على الإنسان أن لا يُسْلم ذاته وعقله وعواطفه لآخرين أو للبيئة تمسخها أو تشحنها بما هو ضار أو مبلِّد للعقل بل يرى بوضوح أن: "في المغامرة وحْدها حيوية الفكر" بل إنه يؤكد أن هذا المعنى يستغرق كل تفكيره وجهده فهو حين يؤكد على أن حيوية الفكر تكمن في المغامرة وحدها يعقبها بقوله: "هذا ماقلته طيلة حياتي ولم أقُل سواه إلا قليلاً" فكأنه يريد الإفصاح بأن هذه الفكرة المحورية هي لُبُّ فلسفته وجوهر رسالته. كان يدرك قابلية العقل البشري للتكيُّف مع أي وضع والتعود على أي تنميط وأن هذه معضلة إنسانية كبرى تواجه الأفراد والمجتمعات والإنسانية كلها لذلك فإنه يدعو إلى استنفار العقل وإلى حث كل فرد على الخروج من سجن الانتظام التلقائي البليد في السائد إنه يحتج ضد التفكير التعليمي الجامد الذي ينمط العقول فيقول: "ما أخشاه هو أن يُفرَض على الناس نظامٌ صلبٌ فتجمد فيهم تلك الصفة الرقيقة: مقدرتهم على ابتكار الآراء والأفكار الجديدة أو اكتشاف الأوجه الجديدة في الآراء والأفكار القديمة ويستمرون على ذلك قرنًا بعد قرن إلى أن ينحدر الإنسان ومجتمعه إلى مستوى الحشرات من الجمود.. ففي المغامرة وحْدَها حيوية الذهن" إنه يرى أن قدرة الإفلات من قبضة التكيف والتعود والانتظام في السائد هي قدرة رقيقة ضعيفة فمن السهل إخمادها والقضاء عليها بل إنها تخمد تلقائيًّا مالم يتكرر استنفارها لذلك فهو يدعو كل الناس إلى استشعار هذا الخطر المحدق والعمل على تفاديه والتحرر منه واستنفار تفكيرهم دائمًا لمواجهته والتحسُّب له. إنه يعارض بكل شدة التعليم عن طريق معلِّم يتحدث وتلاميذ يستمعون فالتعليم ليس تسميعًا وإنما هو تفاعل حي ويسمي التعليم التلقيني (التعليم بواسطة) فهو يرى أن الإنسان لا يتعلم بهذه الطريقة السلبية وإنما يتعلم حين يدخل في حوار مع طرف آخر أو مع مادة يفككها أو يبنيها إنه يتعلم حين يشترك جسده مع عقله وخصوصًا اليدين فاليد مكملة للعقل وموقظه لفاعليات الإنسان ويقول: "يوجد تأثيرٌ متبادلٌ بين النشاط الذهني والنشاط الجسمي الخلاب ولليدين في هذا التأثير المتبادل أهمية خاصة فعدم استعمال اليد في العمل هو من أسباب الانحلال الذهني" ويقول: "فالمعرفة المباشرة هي الأساس الأعظم للحياة الذهنية أما التعليم بالكتب فيقدم المعلومات بالواسطة وليس مباشرًا ولهذا لا يمكن أن يرقى إلى أهمية الممارسة" ويؤكد بأن علينا: "أن نرى الحوادث المباشرة أما الكتب فتقدِّم لنا معلومات مأخوذة من أفكار مستقاة من معلومات مارسها آخرون وهذه المباعدة بين عالم الكتب والواقع هي سبب تفاهة طبقة فئران الكتب وأما جبنهم فسببه أنهم لم يواجهوا الواقع فأعظم ميزة لتعليم علمي يجب أن تكون إقامة التفكير على الملاحظة المباشرة" إن نتائج التعليم في كل مكان تشهد بوضوح على صدق هذه الرؤية فالتعلُّم لا يأتي حقنًا ولا بالاتجاه إليه اضطرارًا وإنما هو خبرة شخصية وفاعلية جياشة بالتفكير الناشط والممارسة الفاعلة والاهتمام التلقائي القوي المستغرق. إن وايتهد شخصية أكاديمية وعلمية وفكرية وفلسفية عالمية وقد كان فكره موضوعًا لأطروحات أكاديمية متنوعة في مختلف جامعات العالم وعلى سبيل المثال فإن المؤلف العربي المعروف أستاذ الفلسفة زكريا إبراهيم قد نال الدكتوراه من السوربون بأطروحة عن (المشكلة الدينية عند وايتهد) وما هي سوى نموذج لأطروحات كثيرة في مجالات متنوعة في مختلف جامعات العالم عن وايتهد وفكره وفلسفته. إن وايتهد يؤمن بأن أكثر الناس يبقون منقادين وذائبين في التيار العام مهما تلقوا من تعليم فلولا الريادات الخارقة التي تزلزل القناعات الجامدة لبقيت البشرية تجتر تصوراتها الجامدة وتعيش أوضاعًا متحجرة مهما امتد الزمن ومهما تعاقبت القرون.. إنه يرى أن المجتمعات تبقى مأخوذة بتلقائية الغرائز إلا إذا هي استجابت للأفكار الخلاقة ثم إنها بحاجة بعد ذلك إلى الحكمة التي تمنحها البصيرة فالمجتمعات في رأيه تمرُّ بمرحلة الغريزة أو الفطرة ثم تنتقل إن هي استجابت للرواد إلى مرحلة الفكرة التي تقوم على الذكاء المتوقد والفكر الخارق والمغامرة الجسورة وليس على التقليد البليد ثم تحتاج إلى البصيرة النافذة التي تكتسب بها الحكمة التلقائية. لذلك فإنه يعطي التشبُّع والانتظام التلقائي في الحياة الاجتماعية وفي الأداء المهني وفي العمل دورًا أساسيًّا فالأفكار الخلاقة من نصيب القلة المبدعة وقادة الفكر والرأي والفعل أما جموع الناس فيتحركون ويتصرفون وفق الروتين الذي كرروه فاعتادوا عليه وتكيفوا معه وتشربوه وتشبَّعوا به فهم يتحركون ويعملون ويمارسون أعمالهم بتلقائية نتجت عن التكرار والتشبُّع والتعود فالحياة الإنسانية ما هي إلا سلسلة من العادات الفكرية والسلوكية ينساب منها التفكير والتصورات والسلوك والأداء انسيابًا تلقائيًّا إنها مؤطَّرة بالحس العام المشترك إن الولاءات والاهتمامات التلقائية العميقة لا تتكوَّن بتجرُّع التعليم وإنما تتشرَّبها القابليات تلقائيًّا فيكتسبون اللغة واللهجة وطريقة التفكير وأنواع الاهتمام ومنظومة القيم بشكل تلقائي وبهذا التشرُّب التلقائي تتشكل البنيات الذهنية والوجدانية. ومن الأمور اللافتة في حياة وايتهد أنه تلقى التعليم الأوَّلي في المنزل فلم يخضع مبكرًا للتنميط التعليمي لقد نجا من تنميط التفكير المدرسي حيث لم يلتحق في التعلم العام إلا في الخامسة عشرة من العمر أي بعد أن تشكَّل عقله تشكُّلا حُرًّا ومنطلقًا فقد التحق بالتعليم العام بعد أن تثقف وتحدَّد اتجاه تفكيره واهتماماته.