قابليات الإنسان هي الثروة العظيمة الحقيقية المتجددة سواء على المستوى الفردي أو المستوى الاجتماعي أو المستوى الإنساني لكن معظم هذه الثروة يروح هدرًا أو ينقلب إلى خسارة فادحة بسبب ما تتقولب به من خليط معيق للعقل ومفسد للأخلاق ومتلف للإمكانات ومع كل هذا الضياع وهذه الخسارة وهذا الإتلاف والتفويت فإن المبرمَجين في مختلف الثقافات يبقون مغتبطين بما تبرمجوا به ليس في حياة البشر ما هو أثمن ولا أعظم من القابليات المفتوحة الفارغة التي يولد بها الإنسان وفي نفس الوقت فإنه ليس أخطر ولا أشد ضررًا من هذه القابليات لأنها تتشرب ما هو سائد وتتقولب به أيًّا كان فهي إما أن تتبرمج تلقائيًّا بالأجود والأصح والأنفع أو تتبرمج تلقائيًّا بركام الأهواء والأخطاء والأوهام التي تتوارثها الأجيال في مختلف الأمم وهذا هو الغالب أما التبرمج المنظَّم المنتقى الممحَّص فهو استثنائي.. إن قابليات الإنسان هي الثروة العظيمة الحقيقية المتجددة سواء على المستوى الفردي أو المستوى الاجتماعي أو المستوى الإنساني لكن معظم هذه الثروة يروح هدرًا أو ينقلب إلى خسارة فادحة بسبب ما تتقولب به من خليط معيق للعقل ومفسد للأخلاق ومتلف للإمكانات ومع كل هذا الضياع وهذه الخسارة وهذا الإتلاف والتفويت فإن المبرمَجين في مختلف الثقافات يبقون مغتبطين بما تبرمجوا به لأنهم لا ينظرون للأمور إلا بواسطة ما تشربوه فتبرمجوا به فهو الذي كوَّن وعيهم، وهو الذي حدَّد معايير التقييم وزاوية الرؤية عندهم.. ولأن القابليات التي يولد بها الإنسان تأتي فارغة ومفتوحة وقابلة للتقولب بأي قالب فإن كل إنسان تتشكل قابلياته بما هو سائد في البيئة التي ينشأ فيها وبسبب ذلك فإن معظم القابليات الإنسانية تتبرمج بما هو ضد المصلحة الفردية أو الاجتماعية أو الإنسانية لأن البرمجة تلقائية غير منتقاة ولا مختارة ولا ممحَّصة، وتأتي مشحونة بانحياز تلقائي مطلق لما هو سائد في البيئة.. إن الناس يولدون في بيئات ثقافية متمايزة أشد التمايز ومتنافرة أشد التنافر أي أنها ثقافات متناكرة وتتبادل التحقير والاستنكار والرفض لذلك فإن البرمجة التلقائية للقابليات البشرية في كل الثقافات هي المصْدر المتجدد لمعظم الشرور التي تعاني منها الإنسانية فليس التظالم الغامر والتنافر المستشري والعنف المتأجج في كل أنحاء الأرض والحروب المدمِّرة التي لاتنقطع سوى نتاج التقولب بتصورات مشحونة بالكره المتبادَل والحقد الموروث والرغبة المحمومة في استئصال المغاير، وليس هذا سوى بعض نتاج التبرمج التلقائي للقابليات الفارغة التي يولد بها الناس.. والمهم أن ندرك بوضوح ونعي بحدَّة ونتذكر باستمرار أن الإنسان بما ينضاف إليه فتتشكل به قابلياته وتتحدَّد طريقة تفكيره وتصوراته ومنظومة قيمه واهتماماته ومعايير التقييم عنده. إن هذا التفاوت الشاسع الملحوظ بين المجتمعات والفروق الكبيرة بين الأفراد آتية من البيئة فالجانب الأهم اجتماعيا وفرديا ليس وراثيًّا وإنما يأتي مما تتلقاه القابليات فتتبرمج به.. إن قابليات الطفل تأتي فارغة ومفتوحة للتشرب وجائعة للتلقي ومتهيئة للنمو وإن حواسه تلتقط مايصادفها وتدفعه إلى القابليات الفارغة المتعطشة، وإن دماغه يعالج بشكل تلقائي مايصل إليه فيتشكل به وتتكوَّن ممراته ومشابك خلاياه فيه وينبني وعيًا وعقلاً بما يتلقاه فيتحدَّد به.. إن علينا أن نتعرَّف على القابليات الإنسانية وأن نتعلَّم ونتدرب على كيفية تعبئتها بما هو صحيح ونافع وإنساني. إن كل إنسان بحاجة إلى أن يتعرف على قابلياته وأن يتعلَّم كيف يبرمجها بالجيد من الأفكار والصحيح من المعارف والدقيق من المهارات والعالي من العادات، والنبيل من الأخلاق. إن علينا جميعا أن نستثمر قابلياتنا بمنتهى الدقة والتنظيم وأن نتلمَّس النماذج المضيئة لهذا الاستثمار الرشيد فنقتدي بها.. إن المتميزين خلال كل العصور وعند كل المجتمعات هم منارات الطريق نحو الأرقى والأجمل والأكمل في أي مجال من مجالات الفكر والعلم والأدب والفن والابتكار والاختراع ونماذج السلوك وعلى سبيل المثال فإننا نستطيع أن نأخذ من سيرة الفيلسوف الإنجليزي جون ستيورتت ميل، دلالات عميقة عن القابليات العظيمة التي يولد بها الإنسان وعن كيفية تعبئة هذه القابليات بما هو ممحَّص من الأفكار الخلاقة، وبما هو نافع من المعارف الممحَّصة وبما هو عظيم من العادات والمهارات ليأتي النتاج عظيمًا وباهرًا. إن تفوقه الباهر ليس امتيازًا وراثيًّا بيولوجيًّا وإنما اكتسب هذا الامتياز العجيب بالتعامل العقلاني الرشيد مع قابلياته أما لو تُركتْ قابلياته لتمتلئ تلقائيًّا بما هو سائد في البيئة لما نال هذا الامتياز ولحُرم من هذا التفرد.. قد يولد أيُّ طفل بقابليات عظيمة فيكون خارق الذكاء لكن البيئة قد توجِّه ذكاءه اتجاها سيئًا فهي التي تصنع طريقة تفكيره وأنماط تصوراته ومنظومة قيمه ومحاور اهتماماته، وهي التي تحدِّد مسار سلوكه واتجاه ذكائه فالأهمية الأساسية ليست في جودة القابليات التي يولد بها الطفل وإنما في ما تتلقاه هذه القابليات وتتشكَّل به فاللص المذهل في احتياله ومهاراته في الإخفاء والتسلل هو إنسانٌ ذكي لكن قابلياته تبرمجتْ بمحتوى رديء وجَّهه هذا الاتجاه الضار فجعله لصًّا بدلاً من أن يصير مبدعًا في أحد المجالات النافعة.. كان والد جون مؤرخًا وعالمًا وفيلسوفًا وكان يدرك ضرر التعليم المدْرسي القسري أو الاضطراري وكان يرغب في تنشئة ابنه تنشئة عقلانية استثنائية خاصة فأبعده عن المدْرسة وحماه من التنميط المدرسي وعَزَلَه عن عامة الناس وحدَّد بدقة شديدة ما يجوز وما لا يجوز أن يَنْفُذَ إلى قابليات ابنه فقد أراده نموذجًا للتربية الفكرية والعلمية والأخلاقية العقلانية وكان يدرك أن اندماجه في البيئة سوف يفسد قابلياته فيشحنها بالأوهام المعيقة وبالتصورات الخاطئة وبالوعي الزائف وبالأخلاق المنحازة فحماه من الاختلاط بالأطفال وعَزَله عن العامة وغمره بعناية خاصة ودفعه إلى أن يكرِّس طاقته للتساؤل حول كل شيء واستثارته لتعبئة قابلياته بما هو ممحَّص من المعارف وبما هو مثير من التساؤلات، وبما هو مثمر من الأفكار وبما هو راق وإنساني من الأخلاق، وبما هو منتقى من الأساليب.. كان أبوه يدرك أن عقل الطفل يتشكل بالوسط الذي ينشأ فيه فحرص على أن لايصل إلى قابليات ابنه إلا ما هو عقلاني من الأفكار والتصورات وما هو ممحَّص من المعارف والمعلومات، وما هو إنساني من الأخلاق فنشأ نشأة عقلانية استثنائية فريدة جعلته فريدًا بين الناس.. إن الدلالات العظيمة التي تنجلي عنها هذه التجربة الفريدة في تعليم وتعلُّم هذا الفيلسوف الفذ تستحق أن نتوقف عندها طويلاً وأن نبرزها كل الابراز الممكن وأن نتحاور حولها بجدية تامة، وأن نحاول الاستفادة منها إلى أقصى مدى مستطاع فهي نموذجٌ لحقيقة أن الإنسان كائنٌ تلقائي وأنه يتشكل بما ينضاف إليه وليس بما يولد به وأنه إذا تمت حماية قابلياته من الامتلاء بالسائد غير الممحَّص وتم إبعاده عن التنميط المدرسي بآثاره السلبية الكثيرة وتمت إثارة انتباهه وحشْد اهتمامه وجرى تنظيم وضبط وتمحيص ما تستقبله قابلياته فإنه يصبح ذا عقل مدهش وقدرات عظيمة.. لست بحاجة إلى تأكيد أهمية هذا النموذج الفذ الذي يمثله جون ستيوارت ميل إن مكانته الفلسفية والعلمية والأخلاقية المتميزة العالية تكاد تكون موضع اتفاق وهو لم يكتسب هذه المكانة العالية بمزايا وراثية وإنما بالطريقة الفريدة التي عُلِّم بها فقد استثيرت قابلياته استثارة غير عادية وعوملتْ معاملة استثنائية وعُبِّئتْ تعبئة فريدة فجاءت بنتائج فريدة وكما يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون : (هيهات أن تُنجب قرونٌ من الثقافة مثل جون ستيوارت ميل ) . إن ملايين من خريجي الجامعات في كل الأقطار قد أمضى كلُّ واحد منهم رُبْع قرن من عمره منتظمًا في التعليم قسرًا أو اضطرارًا ولكن أكثرهم انتهوا بمحصول ضحل يجري نسيانه بسرعة وهذا يستوجب الكف عن استنزاف الأعمار في حفظ معلومات يتم نسيانها، وبدلاً من ذلك يجب التركيز على بناء العقول وحشْد الاهتمام وتشييد الأخلاق فمهمة التربية هي تكوين العقل الفعَّال الفاحص وبناء الأخلاق الإنسانية البانية وترسيخ الاهتمامات الحضارية المتجددة.. وفي دراسة استقصائية حول العباقرة قامت بها عالمة النفس الأمريكية كاترين موريس كوكس توصَّلَتْ العالمة إلى أن جون ستيوارت ميل يأتي في الذروة بين أعظم العقول الاستثنائية متخطياً كل العباقرة فضلاً عن ملايين المتعلمين من حملة الشهادات الجامعية والعليا.. لقد نشأ متوقد العقل فصار منارة مضيئة من منارات الفكر والعلم والأخلاق والإصلاح. لقد نجتْ قابلياته من التنميط المعطِّل فصار فريدًا فالعقل الجمعي يعطِّل نمو العقل الفردي.. تلقى جون ستيوارت ميل تعليمًا فرديًّا منزليا عقلانيًّا خاصًّا يقوم على التساؤل والانطلاق والحوار، وإثارة الانتباه وحرية الحركة الذهنية والجسدية وبناء الثقة وإطلاق الخيال والتجاذب بين طرفين إيجابيين.. لم يكن جون ملزَمًا بكتاب محدَّد ولا بحفظ معلومات يمحوها النسيان وإنما تركَّز جهد أبيه على تكوينه تكوينا عقلانيًّا صرفًا فنجا من ضياع الوقت ومن تبديد الطاقة وسلم من الإكراهات المدرسية ولم يتعرض للتنميط الذهني والعاطفي الذي يعطل العقل ويفسد العواطف ولم يتبلد ذهنه بالملل الذي يغمر الدارسين المكرهين على الدراسة والكارهين لها ولم تنتقل إليه حماقات بعض المعلمين وضيق آفاقهم وكلال تفكيرهم.. كان الدارسون ومازالوا في مستوى عمره في كل المجتمعات ملزمين في المدارس والجامعات بدراسة وحفظ مقررات دراسية كثيرة متنافرة لايشعرون بحاجتهم إليها ولا يحسون بأية رغبة فيها ولا بأي انجذاب نحوها إنها لاتجيب عن تساؤلاتهم ولا تتفق مع متطلبات عقولهم، إنهم لا يدرسونها عن رغبة واستمتاع وإنما يدرسونها مكرهين مضطرين وبالعكس من ذلك كان هو بالمقابل مستثارًا بالأسئلة المنتقاة بعناية كان عليه أن يبحث بنفسه عن الإجابات ثم يتحاور مع أبيه حولها فلم يكن يتلقى إجابات جاهزة تنميه وتشعره بالاكتفاء، ولا هو يُحَفَّظ معلومات معلَّبة توهمه بالاكتمال وتدفعه إلى الاكتفاء وإنما كان أبوه يستثيره بالأسئلة فيتوقد عقله بحثًا عن الإجابات فانفتحت له الآفاق وامتدت أمامه إمكانات المعرفة.. كان أبوه مشغولاً بإنجاز كتابه الضخم (تاريخ الهند) ولكنه لم يكن يضيق بأسئلة الطفل المتسائل بل كان يبتهج باستشكالاته فيترك الكتابة ويصغي للطفل المتوقد فيحاوره ويضع أمامه الاحتمالات الممكنة ويستعرض له الإجابات المحتملة، وينتهي معه إلى ترجيح ما تؤيده الرؤية العقلانية والشواهد الموضوعية.. بالإثارة والاستنفار المبكر لقابلياته أظهر جون قدرات استثنائية مذهلة فما بلغ الثامنة من عمره حتى كان قد أتقن اللغة اليونانية فصار يقرأ الفكر اليوناني بلغته فيشرب مباشرة من النبع الذي تدفقت منه الحضارة الأوروبية، كان في تلك السن المبكرة جدا يقرأ روائع الفكر والأدب اليوناني ويكتب ملخّصات لهذه الروائع.. إنه وهو ما يزال طفلاً كان قادرًا بأن يكتب باللغة اليونانية عن اليونان والرومان وتاريخهما ومنجزاتهما في مجال الفلسفة والسياسة والتاريخ والإدارة والقانون بمقدرة الكبار.. كان مذهلاً حقًّا.. وبعد أن أتقن اللغة اليونانية وهو في الثامنة من عمره أتقن بعدها اللغة اللاتينية وقرأ بهذه اللغة سيشرون والأدباء الرومان.. وما كاد يبلغ العاشرة من العمر حتى كان يكتب بألمعية وبراعة وفي الحادية عشرة قدَّم لأبيه ملخَّصًا لكتاب أرسطو في البلاغة ففي هذه السن المبكرة كان قادرًا على الكتابة بوضوح وبراعة في مجالات متنوعة، هكذا تؤكد كلُّ المراجع الفلسفية والتاريخية التي أرَّخَتْ له ولا بد أن نكرر التأكيد بأن طريقة تعليمه هي مصدر امتيازه وليس امتيازًا جينيًّا فالإنسان بما ينضاف إليه ورغم أن حالته استثنائية إلا أنها ليست وحيدة فهناك فلاسفة ومبدعون كثيرون علَّموا أنفسهم بعيدًا عن التنميط فتميزوا وسوف نلتقي مرات للحديث عن نماذج منهم.. وما كاد جون يدخل السنة الثانية عشرة من عمره حتى صار يعمل في تصحيح المسودات التي كان ينجزها أبوه في كتابه (تاريخ الهند) وفي هذه السن المبكرة جدا كان قد تجاوز مرحلة التلمذة إلى مرحلة الإنتاج في مجال الفكر الاقتصادي والفكر الأخلاقي والفكر السياسي والفكر الاجتماعي.. وحين بلغ الرابعة عشرة من عمره اعتبره أبوه ناضجًا فأرسله إلى فرنسا ليتعرف على نمط مختلف من الفكر والأدب والسياسة والحياة واهتم بأفكار سان سيمون وتأثَّر بها وقام بجولة داخل فرنسا وخارجها وتعلم اللغة الفرنسية فصار في هذه السن المبكرة يجيد اللغات الإنجليزية واليونانية واللاتينية والفرنسية إنه بقراءة الأدب والفكر الفرنسي اتسعت رؤيته وتنوعت آفاق عقله واكتسب مشاعر جديدة فامتزج الوجدان الفرنسي الرومانسي بالعقلية الإنجليزية التجريبية البراجماتية وبهذا المزيج الرائع صار جون ستيوارت ميل فيلسوفًا عالمي الانتماء عقلاني الرؤية إنساني التوجُّه متحرر العقل والوجدان.. المعروف أن جون ستيوارت ميل يمثل القمة بين فلاسفة المذهب النفعي.. وهو المذهب الذي أسَّسه في العصر الحديث الفيلسوف الانجليزي جريمي بنتام وأسهم في تعميقه وتوسيعه وترويجه جيمس ميل وطوره وبلغ به الذورة جون ستيوارت ميل.. للنفعية مرجعية فلسفية إغريقية فقد أسَّس المذهب النفعي الفيلسوف اليوناني أبيقور كفلسفة أخلاقيه أما في العصر الحديث فإن المذهب النفعي صار فلسفة شاملة لتعليل السلوك الفردي وترشيد السلوك السياسي والاجتماعي وتأكيد أن الناس تحركهم في الفكر والفعل مصالحهم ورغباتهم واحتياجاتهم، وأن على الدولة أن ترعى ذلك وتساعد على خلق بيئة إنسانية كريمة بما تعتمده من تشريعات وما تتخذه من إجراءات وما تقيمه من مشروعات وماتلتزم به من أهداف لذلك أجد في المذهب النفعي دعمًا قويًّا لنظرية تلقائية الإنسان فالسلوك الإنساني يأتي تدفُّقًا بدوافع داخلية تلقائية وبواعث أخلاقية عميقة ينبعث منها السلوك تلقائيًّا ولكن لابد أن ندرك أن الناس يختلفون فيما يعتبرونه نافعًا فالمحارب الذي يندفع إلى الموت إيمانًا بوعدٍ أعظم أو اقتناعًا بقضية كبرى ويتخلى عن الحياة والمنافع الآنية سعيًا لنفعٍ هو في نظره أعظم وأدوَم من الحياة ذاتها ولكل مافيها من مسرات فالمهم أن ندرك أن سلوك الناس مدفوعٌ تلقائيًّا بالبحث عن النفع وإن اختلفوا في المضمون.. يقول وليم ديفيد سون في كتابه (النفعيون) : (إن لفظ النفعية بوصفها مدلولاً لنظرية فلسفية في الأخلاق وفي السياسة اصطلاح جدُّ حديث فالنفعية تدل على الاهتمام برفاهية البشرية مضافًا إلى بذل الجهود العملية لتحسين الحياة الإنسانية على أسس عقلية وذلك لكي ترتفع بمستوى الجماهير عن طريق ما تقوم به الدولة من تشريع فعَّال).. إن محور تفكير الفيلسوف النفعي هو الاهتمام بسعادة البشرية دون تمييز أو عزل أو فصل أو استبعاد، إن الفيلسوف النفعي مهمومٌ بتحقيق حياة حرة وكريمة وسعيدة لكل الناس والعناية بالوسائل التي تحقق هذا الهدف الإنساني النبيل دون تفريق.. فإذا كان افلاطون يرى أن الفيلسوف يعيش مستغرقًا في التفكير والتأمُّل المجرد وأنه لا يهتم بالاصلاحات العملية فإن جون ستيوارت ميل وغيره من فلاسفة المنفعة يرون أن مهمة الفلسفة هي تأكيد قيمة الحرية الإنسانية والكرامة الفردية والبحث عن وسائل لضمان تحقيق ذلك لكل الناس بقدر الإمكان لذلك اهتم جون بأوضاع المجتمعات وأحوال الناس وأسَّس (الجمعية النفعية) كما واصل الكتابة لنشر هذا الفكر وألَّف العديد من الكتب بهدف خلق فكر عام يجعل الناس يسعون لتحقيق الخير للجميع.. لقد ظلت أفكار جون ستيوارت ميل محل عناية المفكرين في كل الأمم وصدرت عنه أطروحات في الكثير من اللغات وعلى سبيل المثال فإن أطروحة الدكتور عبدالفتاح الديدي كانت بعنوان (النفسانية المنطقية عند جون ستيوارت ميل) كانت باللغة الفرنسية ثم أعاد كتابتها ونشرها باللغة العربية.. من أهم مؤلفات جون ستيوارت ميل كتابه (عن الحرية) وللكتاب في العربية عدة ترجمات منها ترجمة هيثم الزبيدي وأخرى قام بها عبدالله أمين غيث ولجون كتابٌ آخر مترجَم عن (استعباد النساء) وقد ترجمه الدكتور إمام عبد الفتاح إمام كما صدرتْ عنه دراسات ومؤلفات كثيرة ومنها كتاب بعنوان (جون ستيوارت ميل) ألَّفه وندي دونر وريتشارد فمرتون وهو دراسة أنجزتْ برعاية جامعة كارلتون وقد ترجمه إلى العربية الدكتور نجيب الحصادي.. إن جون ستيوارت ميل ضد الوصاية على الناس بأي شكل وبأية وسيلة وهو يعتبر أن التربية القسرية هي نوعٌ من العدوان على قابليات الناس الواعدة إنه يرى : (أن الطغيان الاجتماعي أشد عنفًا من الطغيان السياسي) فليس أشد ضررًا على الإنسان من إفساد قابلياته أما الأفظع من ذلك فهو إغلاق عقول الدارسين وإفساد عواطفهم وبرمجتها بالحقد والنفور من المغايرين. إن تذويب الفرد في المجموع هو حرمانٌ له من إمكاناته الإبداعية وانتهاكٌ لإنسانيته وسلبٌ لكرامته وطمسٌ لفرديته وبذلك يفقد وجوده الحقيقي ويصير إمَّعة يتحرك تلقائيًّا بما تبرمج به..