خطوة في غاية الأهمية، تلك التي أقدم عليها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله والتي تمثلت في استقطاب عدد من القيادات النابهة في القطاع الخاص للقطاع الحكومي، بغية نقل تجربة ومرونة قطاع الأعمال إلى مؤسسات الدولة، وكسر الجمود فيها، وتنشيط دورتها الدموية، وتخليصها من كولسترول البيروقراطية التي أبطأتْ أو قيّدتْ حركتها بربطها بالكثير من الإجراءات الطويلة، والروتين الذي يحدّ من القدرة على الإبداع، واختراع الحلول السريعة، دون الإخلال بانضباطية الأداء، ما يُتوقع أن يبث الحيوية مجددا في أداء الجهاز الحكومي، ويجعله أكثر استجابة لمحاكاة تطلعات القيادة والمواطن في وقت واحد، باستجابته للغة العصر الحديث وأدواته، والتي ميّزت أساليب قطاع الأعمال خلال الفترة الماضية، ومنحته الأفضلية في استثمار الوقت، كما في الدقة، وكثافة المخرجات. بالتأكيد السير الذاتية للمسؤولين الجدد سواء في الوزارات أو المؤسسات العامة والهيئات، تشير إلى أننا أمام كفاءات متميزة، معظمها من الطاقات الشبابية ذات التأهيل العالي، والخبرات المتراكمة، التي تركتْ بصمتها بوضوح على كافة الأعمال التي تصدّتْ لها، وهذا مؤشر طيب لمعايير اختيارها لقيادة المرحلة، لكن حتى وإن اختلفتْ بيئة العمل بين القطاعين، واختلفتْ الثقافة، وآلية المحاسبة والتقييم بينهما، إلى جانب اختلاف الحوافز، فإن حيوية هؤلاء المسؤولين، وقدرتهم على إعادة صياغة بيئة العمل الحكومي بما يستجيب لبرامجهم كفيلة بتحقيق ولو الحد الأدنى من متطلبات النجاح، خاصة في ظل وقوف الإرادة الملكية خلفهم، وهي من أتتْ بهم لهذه الغاية، ولذلك من الطبيعي أن تستجيب لمعظم مطالبهم واحتياجاتهم بما يكفل لهم النصيب الأوفر من النجاح، إنما تبقى هنالك معضلة واحدة، كتبتُ عنها، وكتب عنها غيري في كثير من المناسبات، وهي المعضلة المرشحة بقوة لإعاقة الوصول سريعا إلى هذا الهدف، أو حتى الحيلولة دون تحقيقه، وهي تجذر نمطية الإدارة الوسطى في مفاصل العمل الحكومي، وعدم امكانية إذعانها بسهولة للتجديد والتطوير، خصوصا وهي التي تمسك بكل مفاصل العمل الداخلي، وتحيط بمداخله ومخارجه مما قد يجعل منها حجر عثرة في تمرير هذه التجربة، أو التقليل من فرص نجاحها. وهذه الشريحة من الصعب جدا أن تبدل جلدها بين يوم وليلة، وهي التي أمضتْ عمرا على ذات المقاعد، وعلى ذات القناعات في أسلوب الإدارة، بمعنى أنهم عاشوا كل أعمارهم الوظيفية داخل نمط إداري واحد بات يجري في عروقهم مجرى الدم، وإذا كان " من الصعب أن تُغيّر عمرا من القناعات " كما تقول مستغانمي، فإنهم بالتالي سيقابلون أي تجديد في صيغة الأداء على أنه عدوان على مألوفهم وخبراتهم، وهنالك الكثير من الشواهد التي تثبت هذه الحقيقة، خاصة وأن بعضهم يتعامل مع وظيفته كما لو كانتْ أحد أبنائه، نتيجة طول مدة التعايش، وبالنتيجة لن يقبل بسهولة إعادة "تربيتها" أو تغيير سلوكها وأساليبها. وهذا ما دفع بعض المسؤولين في مناسبات سابقة للتخلص من أساطين هذه الإدارة الجامدين والرافضين للتغيير وتطوير الأداء بنقلهم كمستشارين، لكنهم أصبحوا عبئا على العمل لأنهم أدركوا أنها مجرد عملية اقصاء ملفوفة بكبسولة الاستشارة التي لن تحدث، لذلك ولتجاوز هذه المعضلة دون إيصال هذا الشعور بالغبن لهؤلاء، وهم في واقع الأمر أو معظمهم على الأقل ممن أفنى عمره بإخلاص ووفق إمكاناته في خدمة عمله، وقدّموا فيه الكثير، ولتهيئة الأرضية المناسبة أمام المسؤولين الجدد لنقل تجربتهم دون عوائق أو معطلات، فقد يكون من المناسب إعطاء المسؤول صلاحية إحالة أي من هؤلاء ممن لا يستطيع الانسجام مع آليات التحديث إلى التقاعد بكامل الراتب، وتكريمه إن اقتضى الأمر، لفتح الطريق لقيادات شابة قادرة على استيعاب هذا المنهج الذي يُراد له أن ينهض بالعمل الحكومي، وإلا فإن هؤلاء الوزراء والمسؤولين سيجدون أنفسهم أمام العديد من المتاريس الإدارية التي تُشبه الصبات الخرسانية والتحويلات التي تعيق وتُطيل طريقهم، وتزرعه بالمطبات الصناعية، وقد تدفعهم للاقتناع باستحالة تغيير واقع الحال، وأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، وهذا ما لا نتمناه.