بين الشاعر والقصيدة تبدو الصورة الشعرية جنيناً ذا ملامح تنم عن فلسفة الذاكرة التي تنمو في مخيلة الشاعر، ربما تمثل الصورة الشعرية العمر الأدبي للشاعر. ربما تمثل خبرته في التعامل مع القصيدة. هناك قصيدة تنمو في أعماق الشاعر وذاكرته ولا تخرج إلا بعد سنين من نموها الفكري وهناك قصيدة تخرج ولا تنمو إلا على الورقة وبين يدي الشاعر. ويتعامل الشاعر معها مثلما يتعامل البستاني مع نباتاته وأشجار بستانه وهو يقلمها. الشاعر يقلم زوائد نصه الشعري حتى يظهر كما يحب أن يكون عليه. وهناك نص يتأمل صورته ومضمونه واكتماله وهو جنين في بطن شاعره وذاكرة كاتبه وعندما يظهر لقارئه يكون في هيئته الأخيرة ليقول عنه شاعره هذا النص جاهز للنشر. هذا التفاوت في النمو الذهني للنص غير مقصود من قبل الشاعر لكن تحكمه الصورة الشعرية العميقة التي تتعامل مع الإلهام الخفي أو الذاكرة الأولى وخبراتها وبرمجاتها ومرجعياتها وفطرتها. بالنسبة لي.. هناك قصائد أذكرها جيداً أتذكر لحظة ميلادها على الورقة وأذكر لحظة تشكلها في ذاكرتي.. كان تشكلها في سن الطفولة وكانت كتابتها بعد ذلك بعقد ونصف. من تلك القصائد التي استغرقت في ذاكرتي ونمت في أعماقي قبل أن تبدو قصيدة ناقصة أقلم أشجارها على أرض ورقتي البيضاء أو على شاشة حاسوبي قصيدة «سبورتي البعيدة» وهي إحدى قصائد ديواني الثاني (لهفة جديدة). قصيدة نامت طويلاً في ذاكرتي وفي إلهامي وخرجت من وحي لحظتي الشعرية متكاملة. وهكذا يبدو لي أن الشعر هو إحدى حالتين: إما شعور مؤجل في الصورة العميقة والسبورة البعيدة في ذاكرة الطفولة الشعرية للصورة، أو هو شعور متقدم يبذر أجنته في أحشاء الورقة البيضاء إلى أن تكتمل أعضاؤها فيبدأ في حياكة ثوبها المناسب وتخرج عنواناً في أبهى ما يراه بها شاعرها. ويبقى أن أقول: ربما يكتب الشاعر نصاً وينشره وهو غير راض عنه ويبقى إحساسه به متربصاً. ولكن هذه التجارب خبرات يستقيها الشاعر في ظل قلة التعاطي مع الجو الخارجي والمناخ الثقافي وحالة التلقي.